وقلت: المعتدلون أمام خيارين.. أن يهاجروا، وينزحوا بعيداً، حيث لا حربَ كونيةً بين الطوائف، أو عليهم التوزع بين طرفي الجبهة، والتحول سريعاً إلى مقاتلين، وقتلى، وفرصة سانحة لحرب مفتوحة.
ستكون مفتوحةً على كل شيء، وسيقتل فيها من لم يكن سنياً أو شيعياً. سنصل إلى يوم يبعث فيه سيف يقطع كل رقبة لا يعترف رأسها بالعدو الطائفي.
العلامة، الآن، أن ساعةَ تقوم علينا جميعاً سنكون سنة أوفياء لكره الشيعة، وشيعة موالين لمحاربة النواصب.
المعتدلون، علمانيون وليبراليون، سيدخلون فيها.. وستكون حرباً للتاريخ.
هذه علامة على أن ما نمارسه اليوم من طقوس احتفالية عن التصالح مجرد تورية لاحتضار السلم، وانتهاء صلاحية التعايش بين الملل.
التعايش على وزن ما لم يكن حقيقياً، حتى في اللغة، حيث "اسم المصدر" الدال على إدعاء الأشياء.
كل هذا الكذب في تحمل الآخر، والعيش معه، ظهر أنه "تعايشاً".
لكن السؤال عن المعتدلين هو: لِمَ الالتحاق بعقيدة الموت، وتقاليد الكراهية وعاداتها في "تكفير" المختلف.
في الأقل كنت شاهداً على اختفاء بعض فرق الاعتدال بعد 2003. في السنوات التي ازدهر فيها التعايش والتصالح، وشح فيها العيش.
شرق بغداد كانت العجلات تذهب وتجيء في حملات التصفية الطائفية. الوقت هو 2006. وكان "نجم"، العامل اللحام، يجلس في المقهى يعاتب الشباب المسلح على السلاح، ويسألهم:"ما أصوات النجدة التي تخرج من بيوتكم كلَّ ليلة.. أين تذهبون بالجثث؟".
نجم دفن، بعد رشقتي كلاشينكوف، من دون أن يتسنى له طلب النجدة.
غرب بغداد، كان شيعي يهاتف صديقه:"أسكن مع السنة منذ عقدين ونصف، حملت أطفال نصف المحلة، ورقصت في أعراس شبابهم حين كبروا، هم يعرفونني معتدلاً ولا أفرق بين المذاهب، حتى أن ولدي الكبير لم يعرف مذهبه إلا حين تجاوز الرابعة عشر. لن أصدق أنهم سيطلبون مني النزوح".
وجاء في خطاب الأمير أن عليه "ترك المنزل في غضون 24 ساعة".
عجباً ألم تكن المهلة 72 ساعة.
كل قصص المعتدلين عن الاعتدال أكاذيب. السنة المعتدلون يعلمون أولادهم أن الشيعة لا يحبون الصحابة، والشيعة المعتدلون يلقنون أولادهم كيف أن الصحابة خصوم لأهل البيت.
الجيل الجديد سيتعايش أيضاً، وهو من يفتح الحرب المفتوحة أكثر وأكثر.
وبينما أفقد الأمل بالمعتدلين، أرجح أن تكون إقامة الحرب بطريقة لائقة بالمعنى الحرفي للكلمة. ومادامت اللغة ضحية التصالح والتعايش، حين استعملنا حيلها، وبلاغاتها في تصوير حياتنا المشتركة، علينا الآن أن نكون أوفياء لها، ونلجأ إلى عبارات نقية نظيفة غير قابلة للتأويل، من قبيل: قتال طائفي، وحقد بين أتباع العقائد.
ألهذه الدرجة نستحق أن نتحمل قروناً من التعايش؟
مقالات اخرى للكاتب