قبل عدة أيام تحدث وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر عن روسيا فوصفها بأنها باتت تحت سلطة فلاديمير بوتين تمثل خطرًا وجوديًا بالنسبة للولايات المتحدة، وأنها تتصرف في الكثير من النواحي كخصم، مما يحتم على واشنطن إعادة التكيف مع هذا الأمر، بل ومقاومته.
هل موسكو تهدد واشنطن بالفعل أم أن العكس هو الصحيح، بمعنى أن امتداد الناتو بقيادة أميركية قرب الحدود الروسية، والأدوار التي يلعبها الغرب وواشنطن في القلب منها داخل أوكرانيا، هو الذي يهدد موسكو؟
يبدو المشهد مؤخرًا متجاوزًا حالة الحرب الباردة، فالمناورات العسكرية من قبل الطرفين تشي بمخاوف من تصادم في الزحام أو احتكاك في الظلام يمكن أن يولد مجابهة نووية لطالما تجنبها العالم من قبل.
يستدعي الأمر قبل تناول المشهد الصدامي بين موسكو وواشنطن الغوص عميقًا في قلب التوجهات والعقائد العسكرية لكل من جمهورية روسيا الاتحادية وللولايات المتحدة الأميركية، حيث يجد القارئ أن مناحي الافتراق أوسع وأعرض بمئات المرات من فروض أو إمكانية الاتفاق.
عبر سطور الاستراتيجية العسكرية الأميركية الصادرة في أوائل يوليو (تموز) المنصرم، نجد اتهامات واضحة وصريحة لروسيا العدو الدائم لواشنطن، بحسب كلمات وثيقة الاستراتيجية، والتي لا تحترم سيادة جيرانها، والمستعدة لاستخدام القوة لتحقيق أهدافها، إنها الدولة المارقة التي أطاحت بالحكومة الأوكرانية، والتي تمتلك شبكة من الصواريخ الباليستية، وتكنولوجيا الهجمات المواجهة، والنظم الآلية، والقدرات الفضائية، وتقنيات أسلحة الدمار الشامل المصمم لمواجهة المزايا العسكرية الأميركية.
في هذا الإطار لم تكن غريبة أو مثيرة تصريحات الجنرال جوزيف دونفورد رئيس هيئة الأركان بالجيش الأميركي في جلسة استماع أمام لجنة عسكرية تابعة للكونغرس الأميركي حيث أشار إلى أن «الحديث عن دولة بعينها يمكنها أن تهدد وجود الولايات المتحدة يعني الحديث عن روسيا دون أدنى شك».
على الجانب الروسي يقر من يطلع على العقيدة العسكرية الروسية الصادرة عام 2010 أن الناتو هو الذي يتهدد موسكو، فهو يسعى للتوسع ويعزز قواته وقواعده في شرق أوروبا، وواشنطن رأس حربة الناتو تسعى بسرعة شديدة وجهد جهيد لتعزيز قدراتها الاستراتيجية الهجومية، من خلال تطوير منظومة الدرع الصاروخية العالمية وتبني مفاهيم استراتيجية جديدة لاستخدامها ضد روسيا.
يطول الحديث عن التنظير العسكري للطرفين، غير أن المثير للقلق هو الدخول بعمق في مجال مناورات حربية من الطرفين يمكن أن تؤشر للأسوأ الذي يحتمل حدوثه، لسبب أو لآخر، وهو ما حذرت منه مؤخرًا «شبكة القيادة الأوروبية»، وهي مركز للدراسات والتحليلات في لندن، ومتخصص في شؤون الدفاع، والتي أدانت المناورات الروسية ومناورات الناتو منذ عام 2014 وحتى الساعة.
ملامح المواجهة والتهديد المتبادلين لا تخفى على أحد في ظل وسائل إعلام موجهة من الطرفين، في معركة تعيد التذكير بالمشهد بين حلفي وراسو والأطلسي، ففي مارس (آذار) الماضي استيقظ الجنود الروس على أوامر عسكرية بالدخول في مناورات غير مسبوقة، بقوام نحو 80 ألف جندي روسي على طول الحدود الغربية للبلاد، صاحبتهم القاذفات الاستراتيجية للتدريب على تنفيذ الهجمات في بحر بارنتس، وقد بدا المشهد وكأنه محاكاة مستقبلية لحرب ضد حلف شمال الأطلسي.. هل هناك ما يزعج الروس بنوع خاص؟
في أواخر أبريل (نيسان) الماضي أعلن رسميًا عن قيام ثلاثمائة عنصر مظلي من عناصر اللواء الأميركي 172 المحمول جوًا، بتدريب نحو تسعمائة جندي من الحرس الوطني الأوكراني، وهي مناورات تستمر حتى شهر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، وأطلق عليها مسمى «حراس بلا خوف»، مما جعل موسكو ترى أبعاد المؤامرة تقترب منها بالفعل.
ليس هذا فحسب، بل إنه مع حلول يونيو (حزيران) المنصرم، كان قادة حلف شمال الأطلسي يقومون بجمع ما يقرب من خمسة عشر ألف جندي في بحر البلطيق، من جميع الأسلحة وتشمل كل أفرع القوات المسلحة لـ19 دولة عضوًا في الناتو و3 بلدان شريكة، وكأنها أيضًا تجربة استعدادية لمواجهة قادمة ومتوقعة ضد روسيا.. هل في الأفق ما يزيد من قلق الناتو عامة وواشنطن خاصة؟
حكمًا، أن التحولات السياسية المثيرة مؤخرًا في آسيا تعظم من مخاوف الأميركيين والأوروبيين على حد سواء، فالتقارب الصيني - الروسي من جهة، والمحور الجديد الناشئ بين موسكو وبكين وإسلام آباد من ناحية ثانية، عطفًا على البنية التكتونية لتحالف البريكس، كلها ملامح تعطي إيحاءات متقاربة للناتو، بأن زمن عالم جديد قد انطلق وآن أوانه، وأن الخوف الذي خيل للجميع أنه رحل دون رجعة في مطلع تسعينات القرن المنصرم، ها هو يطل من جديد على عالمنا البائس.
هل أمر المواجهة النووية والحرب العالمية الثالثة قدر مقدور في زمن منظور أم أنه ما من قدر منقوش على حجر؟
يخشى العقلاء في هذا الزمان، والذي يبدو فيه العالم يعيش حالة من اللااتزان، عطفًا على اعتبار السفينة الكونية في حاضرات أيامنا بلا قبطان، من أن تطغى الكبرياء الوطنية في لحظة ما، أو تشتد الضغوطات المحلية والداخلية في طرفة عين، عند هذا أو ذاك، وساعتها ولا شك وبحتمية قدرية مؤكدة ستغيب ملكة الحس السياسي السليم في إدارة ملامح السياسة الخارجية، ويضحى الانفجار هو المحصلة النهائية.
هل يتابع العالم مناظرات المرشحين الجمهوريين الساعين إلى الوصول إلى البيت الأبيض عبر الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة، ومقدار التوجهات السلبية التي يحملونها لروسيا والصين، ومعها تظن بالفعل أن أميركا لن تكون آمنة حتى تغزو العالم؟
تصريحات آشتون كارتر ومن بعده جوزيف دونفورد جد خطيرة ومخيفة، وبخاصة إذا أخذنا في عين الاعتبار خلفية معلومات استخباراتية أميركية مفادها أن روسيا من المحتمل أن توجه أعمالاً عدائية في شرق أوروبا بعد دعمها للانفصاليين في شرق أوكرانيا.
الحقيقة المؤكدة حتى الساعة هي أن عالمًا جديدًا، يتشكل عبر مسرح الظلال الكوني، هذا العالم غير واضح المعالم نشعر بأحداثه الكبرى الصادمة ولا شك، وإن كنا غير قادرين على ملامستها، عالم تتقلص فيه مساحات السلام، وتتسع رقع الخصام، عالم يتضاءل فيه بناة الأمم وآباء الشعوب وشجعان التسامح وفرسان المصالحة لصالح أصحاب المجمع الصناعي العسكري سواء كان روسيا أو أميركيا، من جهة أو لفائدة سكان وول ستريت من أصحاب المجمع المالي العالمي، ناهيك عما لا معرفة مباشرة لنا به من جماعات ضغط خفية وعلنية.. عالم على صفيح أكثر من ساخن.
مقالات اخرى للكاتب