15 - أبو نؤاس وملامح من حياته في عهد الأمين ، وعلاقة الأخير به :
أ - المقدمة :أ
توفي هارون الرشيد (سنة 193 هـ / 809 م ) ، وخلفه ابنه الأمين، وكان الرشيد قد أودع أبا نؤاس السجن ، لمجونه وتهتكه وخلاعته ،وذات يوم قريب من يوم تنصيبه ،قامت جارية تغني بين أيدي الأمين ، أعجبه الشعر ، فسأل عن قائله ، فقيل له : لأبي نؤاس ، فرغب باستدعائه ، فقيل له : محبوساً ، قأمر بإطلاق قيده ، وقرّبه منه ، لتلائم طبائع الرجلين ، إذ وافق شنٌ طبقه ، وفي سنة 196 هـ نشب الصراع بين المأمون والأمين ، إثر خلع الثاني ولاية العهد من الأول ، فأخذ أنصار المأمون يعيبون على الأمين بمصاحبة شاعر ماجن ، خليع ، يظهر الكفر ، وينتهك المحرمات ، وذلك في خطبهم عندما يعتلون المنابر في مساجدهم ، مما يؤدي إلى اضطرار الخليفة إلى حبس شاعره ، لإبعاد التهمة عنه ، فيتدخل الوزير الفضل بن الربيع لإطلاق سراحه ، وتعود المياه إلى مجاريها ولمّا مات الخليفة الأمين رثاه صاحبه شاعرنا برثاء موجع ، ولم يلبث بعده إلا قليلا ، وتوفي في ظروف غامضة ، لاضطراب تلك السنوات ، كما ذكرنا سالفاً .
ب - كيف تعرف الأمين على شاعره ؟ :
هنالك بعض الروايات تعيد معرفة أبي نؤاس مع الأمين زمن فتوة هذا الأمين ، برواية لا يقبلها العقل السليم ، ولا الفكر القويم ، تقول عندما كان الكسائي الكوفي يشرف على تربية المأمون ، والأمين ، وكان الأخير صبيح الوجه ، طلب منه أبو نؤاس أن يجد له مخرجاً لتقبيل السيد الأمين ، وإلا يهجوه ، فقال له الكسائي ، ما عليك إلا أن تغيب فترة ، ثم تأتي كأنك ما رأيتني فترة من الزمن ، وتهمّ علي تقبيلاً ، ثم تميل على الأمين وتقبله، وكان ما اتفقا عليه ، وقال أبو نؤاس في ذلك:
قد أحدث الناس ظرفا *** يعلو على كل ظرفِ
كانوا إذا ما تـــــلاقوا *** تصافحوا بالأكـــــفِ
فاحدثوا اليوم رشف الـ** خدودِ والرشف يشفي (33)
عبد الله بن طاهر ، وهو الأدرى بأسرار القصر ، ينفي الخبر ، وجزماً الرواية منحولة ، فلا كان يسمح للرعية بتقبيل الخلفاء ولا أبنائهم ، ولا الكسائي الكبير كان مستعداً للقيام بهذا الدور ، ولا أبو نؤاس من الجهل بمكان ، يلّح على طلب تافه ، لا يُزيد ولا يُنقص .
مهما يكن من أمر، تعمقت العلاقة بين الشاعر وخليفته الأمين بعد موت الرشيد ، وإنّ الطيور على أشكالها تقع ، فيروي أبو هفان : " كان محمد الأمين مستهترا بأبي نواس لا يصبر عنه ساعة ينشط للشرب، وكان يطلبه بعض الأحيان فلا يكاد يوجد، فتابع الأمين الشراب عدة أيام وأرسل من يستنبطه ويبحث الحانات ويطلبه في مظانه فلم يقدر عليه، فغضب غضبا شديدا، وكان بعض ندمائه يحسد أبا نواس على موضعه من الأمين، فوجد مساغا للقول وموضعا للكلام فسبه وتنقصه وقال: يا أمير المؤمنين هذا عيار شارب شواظ ينادم السفلة والسوقة وينتاب الحانات ويركب الفواحش، يرى ذلك غنما وإن في منادمته تشنعة على أمير المؤمنين، فلما أكثر في ذلك قال له محمد: ألغ هذا الكلام عنك فوالله ما ينبغي أن يكون نديم خليفة إلا مثله في أدبه وظرفه وعلمه وكمال خصاله، وما غضبي عليه إلا تأسفا على ما يفوتني منه. " (34)
كما تقرأ خليفة المسلمين يبرر بإصرار للمتهتك لحرمات المسلمين ، والخليع من كل أعرافهم ، ما دامت الخلافة لا يمسّها خطر محدق، و لا يلوح لها بشرّ داهم، فتمادى الشاعر في ارتياد حاناته ، بل الإقامة فيها ليل نهار ، وقذ يطيل المكوث فيها شهرا ، جفاه الخليفة ، ولم يعد يسأل عنه ، وفي ذات صباع شرب الخليقة الأمين ثلاثة أرطال وطابت نفسه ، فذكر أبا نواس وظرفه وطيب محادثته، وأن عنده في كل شيء نادرة، فأمر بإحضاره، فلما دخل عليه شكا عظم ما ناله من غضبه وإبعاده وسأله الصفح عنه واغتفار هفوته، فأمر فخلع عليه وأقعد في مجلسه الذي كان يقعد فيه لمنادمته ثم عاتبه على انقطاعه للشراب ، وإقامته في الحانات ، وعدم احترامه لهيبة الخلافة ، فقال: يا أمير المؤمنين، من تمام العفو ألا يذكر الذنب، قال: فأنشدني ما قلت في مقامك هناك فأنشده :
وفتيان صدق قد صرفت مطيهم ***إلى بيت خمار نزلنا به ظهرا
فلما حكى الزنار أن ليس مسلما *** ظننا به خيرا فصيره شــرا
فقلنا: على دين المسيح بن مريم ** فأعرض مزورا وقال لنا كفرا
فقلنا له ما الاسم؟ قال سموأل ***على أنني أكنى بعمر ٍولا عمرا
وما شرفتني كنية عربية ******ولا أكسبتني لا سناء ولا فخرا
ولكنها خفت وقلت حروفها **** وليست كأخرى إنما خلقت وقرا
فقلنا له ...عجبا بظرف لسانهِ * *أجدت أبا عمرو فجود لنا الخمرا
فأدبر كالمزور يقسم طرفه ***** لأوجهنا شطرا وأرجلنا شطرا
فجاء بها زيتيـــــة ذهبية ****فلم نستطع دون السجود لها صبرا
خرجنا على أن المقام ثلاثة ***** فطاب لنا حتى أقمنا بها شهرا
عصابة سوء لا ترى الدهرمثلهم*وإن كنت منهم لا بريئا ولاصفرا
إذا ما أتى وقت الصلاة تراهموا **** يحثونها حتى تفوتهم سكرا (35)
فاستحسنها الأمين وقال: يا غلام. اسق القوم ولا تسق أبا نواس، قال: يا أمير المؤمنين ولم؟ قال: لأنك تصف الغلام إذا ناولك الكأس بأنه قد سقاك كأسين كأسا بعينه وكأسا بيده وتذكر أنك جمشته فهات الآن ما عسى أن تقول إذا لم يسقك فأنشد
أعاذل أعتبت الإمام وأعتبا *** وأعربت عمّا في الضمير وأعربـــا
وقلت لساقيها أجزها فلم يكن ***** ليأبى أمير المؤمنين وأشـــربا
فجوّزها عني سلافاً ترى لها **** إلى الأفق الأعلى شعـــاعاً مطنّبا
إذا عبّ منها شارب القوم خلته **** يقبّل في داجٍ مـن الليل كوكبا
ترى حيثما كانت من البيت مشرقاً **وما لم تكن فيه من البيت مغربا
يدور بها رطب البنان ترى له **** على مستدار الخدّ صدغاً معقربا
فقال له الأمين: ويحك، لم ينج منك على حال يا غلام، اسقه ثم خلع عليه عند انصرافه وأمر له بجائزة (36)
من الأبيات الرائية الأولى التي يصف بها الشاعر بائع الخمر ببراعة متناهية أمام خليفته ، وترى كيف كان يتمتع أتباع الأديان الأخرة بحرية كاملة ، وجرأة متناهية ، بل يعيبون على العرب كنيتهم ، ويستصغرون شأنهم وهم في دارهم ، في حين يقول العرب ، ودارهم مازلت في دارهم ، فكان العرب والمسلمون تتسع سماحتهم لضم الجميع - نعم المتوكل ، خلافته بين ( 232 هـ - 247 هـ ) ، اتبع سياسة التمايز ، فقلل من شأنهم ، واحتقر أمرهم ، ببعض الإجراءات التي ألزمهم بها - ثم عادت المياه ألى مجاريها ، ولشد ما يدهشي هذا النؤاسي - في قصيدته البائية - إذ يقول لساقي خمرته ، اسقنيي رحمك الله : أجزها فلم يكن ليأبى أمير المؤمنين وأشـــربا ، وهو القائل لصاحبه ذات يوم ، لمعاقرة الخمر :
يأحمد المرتجى في كل نائبةٍ ***قم سيدي نعصِ جبّار السمواتِ
عصيان جبّار السموات - كما يبدو لك - عند الشاعر أهون من مخالفة أمر أمير المؤمنين ، وهذا الخليفة الأمير أدرى بعصيان أبي نؤاس وتهتكه ، ولكن والحق يقال ، عندما تحاهل الخليقة شاعره الظريف ، وأهمل أمره ، لم يتذلل الشاعر النؤاسي لأميره الخليفة ، أو يتوسل به للرجوع إليه ، وإنّما الأمين نفسه تنازل عن قراره ، وأشخصه إليه ، وبرر غيابه ، وأشاد به ، وكرّمه ، فالرجل الشاعر ، كان من الذكاء الحاد ، وفرط الإحساس ، أن يتبين الود المبطن بالكراهية ، فيبتعد عن المتصنعين إكراماً لنفسه ، واحتراما لها ، اقرأ هذين البيتين الرائعين :
لم ترضَ عنّي ، وإنْ قرّبتْ متّكي **** يا راضي الوجه عني ساخط الجودِ
بل استترتَ بإظهار البشاشة لي *** والبشرُ مثــــــل استتار النارِ في العود
ج - من قصائد مديح أبي نؤاس في أمينه الخليفة :
قال يمدحه قبل توليه الخلافة ، ولا تفوتك كلمة ( الأمير) في قافية عجز المطلع ، ولا تطلق كلمة الأمير على الخليفة ، وإنما الخليفة ، أو أمير المؤمنين أو الإمام
تتيه الشمـس و القمـر المنيـر****إذا قـلنـا كـأنـهـمـا الأميـر
فإن يـــكُ أشبـها منه قـليلاً *** فـــقد أخطاهــــما شبهٌ كــثيرُ
لأن الشمس تغرب حين تمسي **** وأن البدر ينقصه المسير
و نور مـحمدٍ أبداً تمـامٌ **** على وَضَــح ِالطـريقـةِ لا يـحـورُ (37)
يقول أبو هلال العسكري في (ديوان معانيه) ، تشبيه الوجه بالشمس والقمر ابتدعه المحدثون أي - والكلام لي - بدايات العصر العباسي ، وأبو نؤاس من رواده الأوائل ، والجميل الرائع أنّ أبا نؤاس جعل وجه الأمين أروع من الكوكبين الشمس والقمر ، وإنهما دونه في الجمال ، وعلل
ثم تصرف المحدثون في تشبيهه، أي الوجه، بالشمس فقال ابن الرومي ، من بعده " كالشمس غابت في حمرة الشفق " ، وقال العباس بن الأحنف :
قالت ظلوم وما جارت وما ظلمت*** إن الذي قاسني بالبدر قد ظلما
ابدر ليــــــــــس له عينٌ مكحلةٌ *** ولا محاسن لفظ يبعث السقما (38)
وقال يمدحه أيضاً :
ملكتَ على طير السعادة واليمنِ ***** و حـزتُ إليـكَ الملكَ مقتبـل السن ِ
لقد طـابت الدنيـا بطيب محمدٍ ***** و زيـدتْ به الأيــامُ حسناً إلى حسن ِ
ولولا الأمين بن الرشيد لما انقضت **رحى الدين، والدنيا تدور على حزن ِ
لقد فك أغـلال العنـاة محمــــدٌ ****** وأنزل أهل الخـــوف في كنف الأمن ِ
إذا نحن أثنيـنا عليـك بصــــــالح ٍ *****فأنت كما نـثني، وفوق الذي نـثني
وإن جرت الألفـاظ يوماً بمــــدحةٍ ***** لغيـرك إنســـاناً، فأنت الذي نعـني
يتبين لنا من البيت الأول أن القصيدة نظمت بعد تولي الخليفة الأمين بفترة وجيزة ، والدليل قوله (و حـزتُ إليـكَ الملكَ مقتبـل السن) ، ، إذ كان سنه ثلاث وعشرين سنة هجرية ، فهو من مواليد 170 هـ ، والرشيد توفي 193 هـ ، وهو أصغر من أخيه المأمون بستة أشهر ، وفضل على مأمونه ، لأن الأخير أمه جارية فارسية ، اسمها مراجل ، أما الأمين أمه حرّة هاشمية ( زبيدة) ، والأمين الخليفة الثاني في التاريخ الإسلامي من أبوين هاشمين ، بعد الإمام الحسن ، ولو أن الرشيد كان يتمناها للمأمون لذكائه وحنكته وحكمته وجرأته ...ثم يتطرق من البيت الثاني إلى أنه كان عادلاً وصالحاً ، وقد وفر الآمن والاستقرار، وفي البيتين الخامس والسادس ، يرفع سقف المدح إلى الغاية القصوى ، أو قل : يصيّر من ممدوحه الفرد الأوحد في الدنيا ، كما فعل مع الرشيد من قبل ، إذ جعله قد جمع العالم في واحد، أما الأمين ، فهو كما يثني عليه ، أ و فوق الذي يثني، وإذا مدح آخر ، وبالغ في مدحه ، فإنما يعني الأمين ، وهنا لفتة عبقرية من الشاعر ، إذ فرض على خليفته إن يعطيه صكاً على بياض ، ليمدح من يشاء بلا جساب ولا كتاب!!
ومدحه بقصيدة ثالثة رائعة مطلعها :
يا دار ما فعلت بك الأيـــــامُ *** لــــــم تبـــق فيك بشاشة تستام
أيام لا أغشــــي لأهلك منزلاً ****** إلا مراقبــــــــ ة عليّ ظلام
ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم **وأسمت سرح اللهو حيث أساموا
وبلغت ما بلغ امرؤ بشبـــــابه *****وإذا عصـــارة كل ذاك أثام
وتجشمت بي هــــول كل تنوقه ***** هوجاء فيها جــــرأة إقدام
تذر المطي وراءها فكـــــــــأنها ****** صف تقدمهن وهي إمام
وإذا المطي بنـــــــا بلغن محمداً *** فظهورهن على الرجال حرام
قربننا من خير من وطي الحصــــا **** فلها علينا حرمة وذمام
رفع الحجاب لنــــــــاظري فبدا به ****ملك تقطع دونــــه الأوهام
أصبحت يا ابن زبيدة ابنــــة جعفر*** أملاً لعقـــــــد حباله استحكام
فبقيت للعلم الذي يهدي بــــــــــه ****وتقاعست عـــن يومك الأيام
قصيدة في غاية الروعة ، تكلم عن إبداعها النقاد القدماء ، واستشهد في العديد من أبياتها المعاصرون الأدباء ، وركزوا كثيراً على البيتين التاليين :
وبلغت ما بلغ امرؤ بشبـــــابه *****وإذا عصـــارة كل ذاك أثام
وإذا المطي بنـــــــا بلغن محمداً ** فظهورهن على الرجال حرام
لا يخفى المعنى الإنساني العميق المتأمل الحكيم في البيت الأول ، أما البيت الثاني ، فمرّد إعجابهم إلى عصرهم ، وأعني القدماء منهم ، إذ قارنوه بقول جرير :
ألستم خير من ركب المطايا *** و أندى العالمبن بطون راح؟
وعندي - وهذا مالم يتطرق إليه أحد - أهم ما جاء في القصيدة هو ذكر اسم زبيدة وأبيها ، وهذا يجب أن لا يمر علينا مرور الكرام ، بل يعني أن زبيدة هتي التي كانت مسيطرة على قضر الخلافة سيطرة تامة ، وهي التي حركت ابنها ،وضغطت عليه لخلع أخيه المأمون من ولاية العهد مما أدى إلى مقتل ابنها الأمين وتدمير بغداد بعد سنتين من الحروب والفتن ، ووجد الوزير الفضل بن الربيع الفرصة سانحة للتخلص من المأمون ، وبالتالي من ذي الرئاستين وزير الأخير ، وأخيه الحسن بن سهل ،القائد العسكري الشهير ، والذي أصبح من بعد وزيراً للمأمون ، والمأمون تزوج ابنته بوران في أشهر عرس بالتاريخ الإنساني، ولكل زمان دولة ورجالُ ، وزماننا هذا الرجال محالُ !!