الشيخ الخزامي٬ بطل مقامات اليازجي٬ يمثل في الواقع شخصية عربية أصيلة ما زلنا نلتقي بأمثالها حتى في عصرنا هذا٬ وما أكثرها. إنها شخصية الأديب الذي يقضي حياته في التهام فنون الأدب وعلوم اللغة والبيان٬ ويشغله ذلك عن كسب العيش بمهنة٬ حتى ينشب الفقر أظفاره فيه ويضطر أخيرا إلى التكسب باستخدام ما تعلمه في وجوه غير التي وضعت له. نرى عند اليازجي هذا الشخص يتذرع بمعارفه الغزيرة في مخادعة أصحاب المال والجاه وانتزاع لقمة العيش منهم٬ كما في المقامة الساحلية. قال سهيل بن عباد: ألقتني الرواحل لبعض السواحل. وكان عودي رطيبا وفودي رغيبا٬ حتى إذا كنت في مجلس بعض العلماء٬ وحفت بنا العلماء والشعراء٬ دخل شيخ عريض اللثام٬ أخذ بتلابيب غلام. وقال أعز الله الأمير٬ إني ربيت هذا الغلام مذ دب إلى أن شب. فلما كان بعض الأيام المواضي أرسلته بتقريظ إلى القاضي. فاستبدل القوافي وحول المديح الصافي إلى الهجاء الجافي. فحكم القاضي علي بالحبس. أما المديح المكتوب فكان على هذا الأسلوب: أرى القاضي أبا حسن إذا استقضيته عدلا وإن جاءته مسألة لطالب رفده بذلا إمام لا نظير له نراه بيننا جبلا قد اشتهرت خلائقه فأصبح في الورى مثلا وأما التبديل الذي طرا فكما ترى: أرى القاضي أبا حسن إذا استقضيته ظلما وإن جاءته مسألة لطالب رفده لؤما إمام لا نظير له نراه بيننا صنما قد اشتهرت خلائقه فأصبح في الورى عدما فقال الأمير للغلام: «أف لك يا عقق٬ يا ابن شارب الفلق. أتجزي جزاء سنمار٬ ولا تخاف من العار؟» وأمر بسجن الغلام. فتقدم الشيخ وقال: بل فاسجنا جميعا فإني أشد منه جوعا. ولعله في سجني أستطيع أن أملأ بطني! ثم ظهرت فتاة كصدر القناة وقالت: يا مولاي أرى أن تدفع لهما ما ستنفقه في السجن عليهما٬ واغتنم الراحة من كليهما. فقال الأمير: لا جرم٬ فذلك أحزم. ووصل كل واحد بمائة درهم. وخرجا بما كسبا. فتبعهم الراوي وعرف الشيخ الخزامي وغلامه وابنته٬ فعنفه على فعلته واحتياله فرد عليه الشيخ: للناس طبع البخل وهو يقودني كرها لخلق عضيهة ونفاق فدع الجماعة يتركون طباعهم حتى تراني تاركا أخلاقي ثم قال: يا بني ذاك المسجد إن كنت خطيبا وإلا فلا تداو طبيبا. واعلم أن الصيد لا يؤخذ إلا بالختل ولا يدرك إلا بالنبل٬ والفرصة لا تضاع والمتعنت لا يطاع. فراع المصادر والموارد وكن ماردا على مارد
مقالات اخرى للكاتب