من اجل الوقوف على اهمية حادثة اسقاط الطائرة الروسية قرب الحدود التركية السورية وحجم مضاعفاتها على المتغيرات الدولية بين كبار هذا العالم لابد من اثارة التساؤل التالي: هل كانت حادثة اسقاط الطائرة قرارا تركيا خالصا، ام هو رسالة من حلف الناتو الى روسيا وجهت عبر سلاطين الدولة العثمانية الى روسيا؟! الاجابة عن التساؤل التالي تضع الحادثة في سياقها الصحيح وتضع النقاط على الحروف بخصوص مسار الاحداث في سوريا والمنطقة بين حلفين دوليين لا يتورعان عن استخدام جميع الاوراق في تلك المعركة الضارية.
تركيا وان كانت دولة تمتلك تسليحا جيدا، قوة بشرية ممتازة وكذلك اقتصادا لم يتأثر كثيرا بمضاعفات الازمة العالمية طيلة السنوات الماضية، ناهيك عن كونها عضوا في حلف الناتو وهذه نقاط قوة تصب في صالحها الا انها ليست في وارد العبث مع موسكو بهذه الطريقة الطفولية، ولا يمكن ان تكون 17 ثانية المدة الزمنية التي قيل ان الطائرة الروسية قد خرقت فيها الاجواء التركية سببا منطقيا لمشاغبة تركيا مع الدب الروسي واسقاط هيبته بهذا الشكل! انها مغامرة باهظة الثمن بلا شك.. اردوغان يعرف ذلك، ويعرف ان المغامرات غير المحسوبة قد تجبر حلف الناتو على التخلي عن تركيا اذا ما تعلق الامر بروسيا، ان المعسكر الغربي لم يفعل شيئا لأوكرانيا وهي جزء من بينته فكيف الحال بتركيا؟! من هنا فان اردوغان لم يقدم على توجيه تلك الرسالة المفخخة الا بالتنسيق مع الناتو، من هنا يمكن ان نفهم مواقف الناتو المتفهمة جدا للموقف التركي والتي اجبرت بوتين على التعليق عن ردود افعال الناتو بعيد الحادثة بقوله: "الناتو هل يريد ان يكون في خدمة داعش؟!".
بوتين قرأ الرسالة جيدا وارسل مزيدا من التعزيزات الى سوريا، بوتين وعد بالرد ولكنه الرد على رسائل من هذا النوع يقف وراءها الناتو لن يكون مستعجلا، الناتو مستاء جدا من الضربات الروسية الموجعة للتنظيم وخصوصا لتجارته النفطية، لقد ضرب بالصميم احد اهم شرايين داعش، وهذا ما رفع سقف الاحتقان في صفوف المعسكر الاخر.
لكن تلك الرسالة الصارخة من حلف الناتو عبر تركيا قد لا تغير كثيرا في معطيات الامور، وذلك لان ما يدفع روسيا للمغامرة بالملف السوري الى هذا الحد ليس فقط المصالح الروسية المباشرة مع الجانب السوري، وليس فقط ما يربط روسيا مع حليف سوري آخر هو ايران الدولة المهمة في المنطقة، وليس فقط العداء التاريخي بين روسيا وتركيا خصوصا فيما يتعلق بصراع النفوذ في العديد من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وليس فقط لان روسيا تريد الحفاظ على الحد الادنى من مصالحها في كعكة الشرق الاوسط الشهية جدا، بل اضافة الى ذلك فإن الجانب الروسي يريد استثمار الورقة السورية والاوكرانية لإرساء مرحلة روسية جديدة في تقاسم النفوذ بين الكبار، وارسال رسالة للجميع بأن روسيا اليوم مختلفة كثيرا عن روسيا الامس، في ظل اوضاع اقتصادية سيئة جدا تعيشها البلدان الغربية مما يعطي لروسيا مساحة اكبر للمناورة. ان روسيا في مرحلة "فلايدمير بوتين" تختلف كثيرا عن روسيا "بوريس يلتسن"، من هنا فان "قاعدة طرطوس العسكرية الروسية" التي اسست في السبعينات من القرن الماضي والتي اهملت لفترة طويلة من الزمن، امر بوتين بتنشيطها وبنائها من جديد منذ عدة سنوات. روسيا لازالت على موقفها الصلب بأن المصلحة الروسية في الشرق الاوسط اكبر بكثير مما يتصور الاصدقاء والخصوم. وبالمجمل العام فان ملف اسقاط الطائرة الروسية لن يغلق بتطييب الخواطر بل ستليه رسالة روسية الى الناتو ايضا عبر تركيا توازيها في القوة وتعاكسها في الاتجاه.