مدخل
========
يعتمد الامن العام في اي بلد على ثلاثة اوجه(اساليب) , هي الأمن الوقائي و الأمن الاحترازي والأمن المعلوماتي, ولكل مستوى واسلوب من تلك الاساليب الثلاث فوائد واضرار ومعوقات ومشاكل وحلول وإجراءات وآليات وتوقيتات وظروف لابد من اخذها بنظر الاعتبار .
ان تطبيق الأمن بالاوجه الثلاثة يحتاج إلى تخطيط وإمكانيات وتكنلوجيا وعنصر بشري وثقافة مجتمع وتطور أمني مقابل تطور مستوى التهديد.
وسنتناول هنا الاوجه الثلاث واستخداماتها وسنبين ان اهم وجه واسلوب لحفظ الامن هو الامن المعلوماتي والذي لابد من اعتماده بشكل مستمر , وان الاسلوبين الاخرين هما اسلوبان داعمان وان استخدامهما لابد ان يكون مؤقتاً يرتبط بزمن محدد , لان الاستمرار بهما يؤدي الى عسكرة المجتمع , كما سنثبت ان من اكبر اضرار الامن في العراق هو اعتماده على اقل الاساليب الثلاث جدوى واكثرها ضرراً. هو الامن الوقائي مع اهمال الاسلوبين الاخرين.
============
الامن الوقائي
============
يتمحور الأمن الوقائي على ان الوقاية خير من العلاج , كحزام الامان لسائق السيارة , والخزنة لصاحب الشركة , والسونار في التفتيش بالمطارات .
ولكن حزام الامان لاينفع من يقود الشاحنة ان لم يكن يحسن السياقة اصلاً , كما ان خزينة الشركة لاتحمي الاموال اذا ماكان الرقم السري للخزنة لدى كل الموظفين والحراس , كما انه لاقيمة للسونار اذا ما كان هنالك ممر للمسافرين غير ممرات السونار.
الامن الوقائي هو مجموعة من الاجراءات تقوم بها الدولة لحماية المواطنين بطريقة عمياء تشمل الجميع (او هكذا يجب ان يكون ) ويشمل كل مناحي الحياة ,ففي الدولة يكون تشكيل الجيوش امناً وقائياً , وفي الصحة يكون الامن الوقائي باللقاحات والارشاد الصحي وفي المرور بالاشارات والتعليمات المرورية وفي الحدود بنشر القوات واقامة الابراج الحدودية وفي المطارات في اجهزة السونار وغير ذلك من المجالات.
ان اجراءات الامن الوقائي لاتكفي بذاتها بتحقيق الغرض التي تقوم من اجله , وانما تحتاج الى دعمها باجراءآت تمنع الخطر وتحجمه قبل استفحاله , لان الامن الوقائي هو امن اعمى لايردع الخطر ويحتاج الى بيانات دقيقة ليصبح أمناً يرى ويرصد .
فلو حصلت سرقة في مصنع تعداده 3000 عامل وموظف , فإن الاجراء الوقائي يكون باقفال البوابات وتفتيش كل العاملين والموظفين , وسنحتاج الى اعداد كبيرة لتفتيش الجميع وسنهدر ساعات طويلة في التفتيش وسيعلم السارق بان البوابات فيها تفتيش فيخفي سرقته او على الاقل يتخلص منها , وبذلك نفشل بهذه الطريقة في ان نحمي المصنع من السرقة ونفشل في ردع المجرمين واكتشافهم وطردهم ومعاقبتهم .
ولكن لو كانت لدينا عيون ترصد العاملين بشكل سري أو كامرات , ولو كانت لدينا ادارة عاملين تدقق في شؤون العاملين وخلفياتهم الجرمية , حينها سيكون اكتشاف السرقة اسهل بدون اهدار للوقت ولانحتاج الى كوادر للتفتيش بشكل كبير ولسهل لنا حصر المشتبه بهم .
ولعل من ابرز مظاهر فشل الامن الوقائي (حين يُعتمد عليه في استتباب الامن ) هي السيطرات العسكرية الدائمة في المدن والتي تتولى تفتيش السيارات والاشخاص دون ان تتوافر عندها معلومات عن الارهابيين وعجلاتهم .
فلو ان السيطرات تبحث عن الاسلحة و السيارات المفخخة (وهو واجبها الاول), فانها ستفتش كافة العجلات وهو امر مستحيل لانه يشل الحياة .
لأن تلك السيطرات ستكون عامل ارهاق للمواطنين ولرجال الامن المتواجدين في السيطرات وتعطل الاعمال وتخلق الفوضى والزحامات التي تعد من افضل مايتمناه الارهابي للتفجير .
كما ان وجود السيطرات في داخل المدن تعطي شعوراً بالقلق وعدم الامان سواء للمواطن وللاجنبي السائح او للمستثمر مما يضر بالاقتصاد .
ومن هنا تعد السيطرات الثابتة في المدن بمثابة اشغال لعشرات الالوف من افراد القوات الامنية والمسلحة وتعطيل للحياة وفي ذات الوقت فانها غالباً ماتفشل في حفظ الامن لان الارهابي يتجنبها او ان يفجرها , لاسيما وان العدو لدينا هو من ابناء جلدتنا ويتحدث لغتنا واختلاطه وسط المواطنين سهل وسلس .
===========
الأمن الاحترازي
===========
يعد الامن الاحترازي شكلاً متقدماً من اشكال الامن , وهو يشبه الامن الوقائي من حيث بعض آلياته , الا انه افضل منه وارشق واكثر جدوى .
فاجراءآت الامن الاحترازي تكون محددة بزمن قصير نسبياً ومسبباً بسبب محدد , فتأسيس الجيش هو امن وقائي في كل البلدان ولكن دخول الجيش في انذار هو امن احترازي يكون لزمن محدد ولأسباب معلنة معروفة .
ففي الامن الاحترازي تقوم القوات باقامة سيطرات عشوائية او سيطرات مؤقتة تفاجيء المجرم والارهابي دون سابق انذار , فيخدم عنصر المفاجئة في المباغتة .
كما ان الامن الاحترازي يتم وفق اسباب معينة , كإغلاق طريق مفاجيء لتوقع مرور ارهابيين , او محاصرة محلة من محلات بغداد وتفتيش منازلها بشكل مفاجيء محكم لايعطي للمجرمين فرصة الافلات ,وماان ينتهي الاجراء حتى تنسحب القوات وترجع الى قواعدها .
ويشمل الامن الاحترازي المداهمات وحماية اماكن محددة بسبب عقد مؤتمر , او التحرز على اصحاب السوابق في الاعياد وغيرها من الاجراءات الوقتية السريعة المسببة .
وتعد قوات التدخل السريع (swat) من اشكال الامن الاحترازي حيث تمتاز بالرشاقة والسرعة والأمن الاحترازي يحافظ على المدنية في المدن وعدم عرقلة الحياة ولاتعطيل المواطنين وبقدرته على تحقيق نتائج افضل وأسهل من الامن الوقائي .
============
الأمن المعلوماتي
============
الامن المعلوماتي هو العمل الاستخباري الذي لاغنى عنه في تحقيق الامن , وهو يتيح لنا ان نخترق تنظيمات العدو والاطلاع على نواياه قبل ان يقوم بعملياته الارهابية والاجرامية ,ولذا فهو يستبق العمليات الجرمية ويحاصرها ويكشفها ويعطي الفرصة للقوات الامنية بتدميرها والقضاء على مخططيها .
فالاستخبارات هي عين الدولة على اعدائها الحاليين وحتى المحتملين , فهو جهاز الاستشعار الذي يوفر الوقت والجهد ويحقق النتائج الحاسمة , وهذا يتم طبعاً حين يتم بناء الاجهزة الاستخبارية باساليب علمية بعيدة عن المحاباة.
عندما نزور بلدما ونراه آمناً بلا مظاهر مسلحة فاننا نتصور ان اجهزته نائمة , بينما العكس هو الصحيح , فنحن لا نشعر بحرب الاستخبارات الخفيه والنشطة التي تقوم بها البلدان ضد الإرهاب والمسلحين والعصابات لتحقيق الأمن.
فالدول تتخلص من المخاطر بالجهد الاستخباري وتبعد الموت عن مواطنيها بجهد حقيقي وبصرف أموال وإمكانيات كبيرة لتنظيم العمل الاستخباري الهجومي ولا تنتظر ان يخطط ويتدرب ويجهز الإرهاب نفسه , فالأمن يعني الحياة والمستقبل والتنمية والأعمار والاستقرار وهذا يحتاج الى أجهزة استخبارية ذكية فاعلة متخصصة.
ان الأمن المعلوماتي هو الجهد الاستخباري المدعوم بإجراءآت أمنية سريعة ومرشقة وفاعلة دون الضغط على المواطن والبيئة والمدينة , وهذا غير متيسر من دون تطوير العمل الاستخباري الذي يتيح لنا اختراق العدو وزرع المصادر والمخبرين ومهاجمة العدو استخبارياً لاعسكرياً ونشر شبكات المعلومات والتجسس في كل مستويات الجهد الإرهابي ونشاطه من مراكز التخطيط الى خلاياه التنفيذية والنفاذ في جميع مفاصل التنظيم اللوجستية والتدريبية والخلايا بكل مستوياتها الاستطلاعية والداعمة وحتى الجهد السياسي الداعم الإرهاب ومعرفة القادة والممولين والداعمين وخطوط الإمداد وضرب الجميع بعمليات استخبارية سرية .
ان وجود الجهد الاستخباري الحقيقي يقلص بشكل كبير الاعتماد على السيطرات في المدن مما يعني اعادة الحياة المدنية للمواطنين ويعطي للحياة سلاستها وانسيابها ويغني عن جهود هباء لعشرات الوف الشرطة والجنود في السيطرات , مع تحقيق نتائج مبهرة لاتقاس باساليب الامن الوقائي .
================
اوجه الامن في العراق
================
العراق يستخدم الامن الوقائي بشكل مفرط دون جدوى منذثلاثة عشرة عام , مما ادى الى عسكرة البلد بالرغم من ان العراق هو آخر بلد يصلح فيه استخدام هذا النوع من الامن .
فعندما يكون العدو من صنفك ويتكلم باللهجة نفسها وهو عراقي ويلبس نفس الزي ويحمل نفس المستمسكات ويتمشى في نفس السوق والمحلة والشارع , لابد أن نفهم أن الأمن حينها سيكون بمستوى الصفر هنا , ولا يمكن تحقيق الأمن لو أصبح كل الشعب العراقي جيشاً وشرطة .
في جبهات القتال عندما يكون بينك وبين العدو أرض حرام بمسافة 200 م سيكون امنك ضعيف , لأن العدو يستطيع ان يثب عليك خلال دقائق , فتحتاج الى ان تتابع حركاته وسكناته استخبارياً ولاتكتفي بوجود ساتر وخط صد والغام واسلاك شائكة ومشاعل عثرة ودوريات وكمائن ورصد واستطلاع جوي وناظور ليلي ونهاري وخطة نار ومدفعية وشقوق انسحاب وساتر بديل وتنوير وغيرها , وكل هذا لا يكفي فترى القيادة تسأل وتحتاج استخبارات عن العدو ومعلومات , فكيف إذا كان العدو لصق الناس في المدينة ولا ندري أين سوف يفجر اليوم.
هنا تنهار منظومة الأمن حتى لو وضعنا في كل شارع دبابات ومدرعات وسيطرات , والحل الوحيد والامثل يتمثل بمعالجة نقص الأمن بالاستخبارات وتشخيص العدو.
ان الإصرار على تطبيق الأمن الوقائي الأعمى طيلة سنوات لم يجلب سوى الموت والدمار للمواطن وللبلد , ولا يوجد حل مع الإرهاب غير الهجوم عليه بالجهد الاستخباري وخرق العدو والانتقال إلى مستوى الأمن المعلوماتي, اي ان تعرف العدو وعناصره وتطاردهم لا ان تطارد أشباح.
ان من الظلم والمستغرب ان يحال آمر الفوج الفلاني للمحكمة بسبب انفجاراً انتحارياً قد حصل في قاطعه فآمر الفوج لايستطيع ان يمنع التفجير أو يصده بأسلوب السيطرات الفاشل؟!! ما لم تتوفر عنده معلومة محددة , وكان الأحرى أن يوضع قادة العمليات والاستخبارات في السجن لأنهم لم يتوصلوا قبل التفجير الى معلومات عن الخلية الارهابية التي خططت ونفذت .
ان اجراءآت الامن الوقائي الهزيلة عندنا تذكرنا باجراءات نظام صدام حين حفر خنادق وملئها بالكاز واحرقها بحجة التعتيم على العدو كي لايستمكن الاهداف , فيما كان الامريكان يضربون الاهداف بالطائرات المتطورة التي تضرب الهدف من مسافة عشرات الكيلو مترات دون الحاجة إلى رؤية مباشرة .
ان على الحكومة ان تستعد من الان قبل نهاية الحرب العلنية التي يخوضها ابطالنا على داعش في جبهات الموصل , فالعمليات الارهابية ستزداد بشكل مضاعف واشد عنفاً حال انتهاء العمليات الحربية , لان الكثير من الارهابيين مشغولون بالمعارك عن العمليات الارهابية , كما ان من المتوقع ان تنشطر التنظيمات الارهابية اثر اندحارها وتتصارع فيما بينها , وتسعى كل منها الى البروز على المجاميع الاخرى من خلال اثبات انها اكثر قوة واكثر دموية وتترجم ذلك بعمليات ارهابية كبرى ضد المدنيين .
ومن هنا لابد من التحرك الحكومي السريع باعادة تنظيم المؤسسة الاستخبارية وتحديد أهدافها وبث الروح فيها وتشكيل فريق علمي من خبراء (غير سياسيين ولامسييسين) لرسم سياسات استخبارية حقيقية .
ان علينا التنبه الى الذراع السياسي مدفوع الثمن والداعم للجهد الإرهابي والذي يصرخ ويدافع ضد أي مشروع يستهدف ضرب الإرهاب , فهم سوف لن يسكتوا أو يتوقفوا , لأن صراخهم وعمالتهم بثمن .
ان الطريقة الوحيدة التي تجعلهم يصمتون هي بالملفات الاستخبارية ومتابعه وتوثيق اعمالهم , وعندما تتم مواجهتهم بافعالهم سوف يصمتون , فهم فاسدون وسراق ومتآمرون وما ان يتم توثيق اعمالهم ومواجهتهم بها سوف يتم اخراسهم.
=======
خلاصة
=======
ان فقدان دور الاستخبارات لا يعوض بالدبابات والسيطرات والتمني والدعاء , فالبلد يحتاج رجال ساهرون على أمنه يعملون بصمت ونشاط بعيدا عن الاضواء والإعلام , مدعومين بإسناد الشعب والحكومة والجميع للتخلص من شر الارهاب.
ويجب أن تأخذ ادارة المجتمع الاستخباري دورها الحقيقي برئاسة القائد العام , ويكون الجهد الأمني والعسكري مساندا ويتم إبعاد الفاشلين والطارئين على هذا المجال العلمي واستخدام الخبرات المختصة.
ان علينا ان نقوم بمراجعة شاملة لخططنا الامنية والبقاء على مستوى بسيط من الأمن الوقائي بقدر الحاجة ,وتفعيل الأمن الاحترازي , ولكن الأهم من كل ذلك هو ان نضع برنامج حقيقي يُمَكِّن الحكومة من بلوغ الأمن المعلوماتي .
مقالات اخرى للكاتب