في أحد الأيام كنت على موعد للقاء شاب عراقي في بداية عقده الثاني، كان قد أخذ وقتها حيزا كبيرا من الإهتمام الإعلامي العراقي والعربي بتميزه الكبير في المجال التكنولوجي وتطوير الشبكات الالكترونية، وكانت له غزوات مذهلة ضد كيان العدو الصهيوني في العالم الافتراضي من خلال اختراق مواقع الكترونية صهيونية حساسة وتعطيلها. ما سمعته عن ذلك الشاب العراقي أذهلني وجعلني اشتاق لرؤيته ولقائه، وكنت أقول في نفسي أنه من الواجب علينا جميعا رعاية هذه العقول الشابة التي تبشر بالكثير من الخير في المستقبل للعراق، ولكن ما أن دخل ذلك الشاب مكتبي حتى شعرت بالكثير من الحيرة، فقد كان الشاب يلبس ملابس ضيقة جدا وكان شعره كثيف ومصفف بطريقة غريبة بعض الشيء ويلبس الكثير من الإكسسوارات الغريبة بعض الشيء... هل هذا فعلا الشاب الذي أثار كل تلك الضجة العلمية والغزوات التي عجزت عنها الجيوش العربية ضد كيان العدو الصهيوني. تحولت حيرتي لاستغراب تبدى واضحا على وجهي وكاد الأمر يأخذني لأماكن كثيرة، لولا الكلمات الصادقة التي خرجت من الشاب وأنتشلتني من حيرتي واستغرابي، عندما قال ليس الأمر متعلقا بالمظهر الخارجي بل بما أملك في داخلي من ثقافة وعلم وحب للعراق، وطموح كبير في خدمة بلدي. لم تغب هذه الصورة أبدا عن ذهني والتي لم يمض على وقوعها العام الواحد، وأنا أتابع الضجة المثارة أخيرا حول أنتشار ظاهرة "الأيمو" في العراق، وانسياق البعض بوعي أو بدون وعي نحو التشدد في التعامل مع هذه القضية، إن صح وجودها في البلاد أساسا، واستخدام دم الأبرياء من أجل استعراض العضلات أمام الآخرين المخاصمين سواء في الدين أو السياسة. "الأيمو" التي تم توظيفها سياسيا في العراق باعتبارها خطرا يهدد حاضر ومستقبل البلاد، ليست دينا إلحاديا لا يعترف بوجود الذات المقدسة أو إتباع خطوات الإغواء للشيطان بتقديس الجنس وطقوس القتل الجماعي، بل هي في الأساس مظهر شكلي بدأ كتيار موسيقي من موسيقى الروك التي أنتشرت في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، وتحولت في مطلع الألفية الثالثة إلى لباس غريب وسماع أغاني تتحدث كلماتها في الغالب عن الحزب والألم والعزلة. وبالتالي فهي ثقافة يتبعها المراهق في بداية تشكل وعيه الفكري والفلسفي، نتيجة طاقة الحماس والإندفاع الهائلة التي يملكها الشاب المراهق، فضلا عن حب التميز والتفوق والظهور، حيث أصبحت هذه الثقافة تستخدم من قبل المراهق للتعبير عن المشاعر والأحاسيس، ولم تتحول حتى اليوم لعادة أو فكر عميق مؤدلج وشيطاني. وقد أحسن المرجع الشيخ محمد اليعقوبي قولا عندما أكد أن "الشباب معروفين بالحماس والاندفاع وحب التميّز والتفوق والظهور وهذه عناصر كالسلاح ذي الحدين، فيمكن جعلها عناصر محفزة لفعل الخير والابداع والعطاء المثمر، ويمكن ان تكون أدوات ووسائل مؤدية إلى العنف والصدام والتمرد على المقدسات والمجتمع والانشقاق، لذا فان المأمول بشبابنا ان يوظفّوا هذه الطاقات الشبابية لما فيه نفع الأمة وصلاحها وبناء مستقبلها الزاهر، وليس لاستيراد التقليعات البائسة والمظاهر المنبوذة وان لا ينسلخوا من هويتهم الفكرية والوطنية والاجتماعية، وان لا يقوموا بأفعال استفزازية فيها خروج فاضح على ثوابت الأمة خشية الوقوع في ردود الأفعال الانفعالية الهوجاء". وبالتالي فإن سهام المسؤولية في انتشار هذه الثقافة بين شبابنا لا شك تقع بالكامل على عاتق مثلث المسؤولية (المؤسسة الدينية والمجتمع والحكومة)، فلا تستطيع الدولة بناء مجتمع فبناء المجتمع يقع على عاتق الدين ومن هنا يقدم لنا الدين مجتمع اخلاقي نموذجي واعي متحضر يحمل القيم الانسانية البناءة ومن هنا تستطيع الحكومة بناء الدولة من خلاله، فالموقف الشرعي تجاه ظاهرة "الأيمو" ليس القتل أبدا بل النصح والإرشاد حفاظا على شبابنا، والعمل على إصلاحهم وتوجيههم وإرشادهم، لا أن نحمل السيف ونترك لبعض المتعلقين بأذيال التدين والتحزب الأعمى أمر تصفية شبابنا وقلتهم أمام أعيننا بكل هذه القسوة بعد أن أعتبرناهم "سفهاء ومجانين" و"آفة المجتمع" والمطالبة بـ"إنهائهم على الفور". أن التصرف المشروع إزاء الانحرافات الاجتماعية، - وكما تشير إلى ذلك المرجعية الرشيدة القريبة من المجتمع التي يتبناها الشيخ اليعقوبي - لا يعدو النصيحة والإرشاد والتوعية، وبيان الأثار السيئة للانحراف ومخالفة منظومة الأخلاق والآداب الإنسانية والاجتماعية السامية، ولا يكره احدُ على عقيدةٍ ما أو سلوكٍ ما، قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ }، وان تكون النصيحة بليّن ورفق ومراعاة الظروف التي يعيشها الآخر ومنطلقاته الفكرية والأخلاقية والاجتماعية، قال الله تعالى مخاطب نبيه الكريم موسى (عليه السلام) وأخيه هارون (عليه السلام) وهما يتوجهان إلى فرعون الطاغية لدعوته إلى التوحيد {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى*فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}، فإذا كان التصرف مع فرعون الذي ادعى الربوبية وافسد في الأرض هو هذا، فكيف يكون التعامل مع غيره؟. الدعوة للقتل المغلفة بالإجتهاد الديني المتشدد واللاواقعي يخدم المصالح السياسية التي تفوح رائحتها من وراء الإدعاء بانتشار هذه الظاهرة في العراق والمطالبة بالقضاء عليها، وهي الدعوة التي أطلقتها الحكومة المقصرة أساسا في التمسك بمسؤوليتها تجاه الشباب العراقي من خلال وزارات الشباب والرياضة والتعليم العالي والتربية والثقافة، والتي من الواجب عليها أن تبين ثقافة البلاد وطبائعه وتنشرها في الشارع العراقي ولدى الشباب. سفك الدماء وقتل النفس التي حرم الله قتلها على الضنة والشك وترويع الشباب على مرأى ومسمع أهالي الضحايا ونشر قوائم فيها أسماء شباب ليس لهم علاقة بما يسمى بـ"الأيمو"، يعني صراحة ان هناك جهات تريد استغلال الموضوع لإرعاب الناس وترويعهم وفرض السيطرة على مقدرات المواطنين خصوصاً في المناطق الشعبية تحت ذريعة الدفاع عن الإسلام وحماية المجتمع. التعامل مع الشباب العراقي المتهمين بإتباع ثقافة "الأيمو" لا يكون بالقتل بسلاح الدين والإجتهاد وبمباركة سياسية مشبوهة بل بالنصح والإرشاد وإضطلاع المؤسسات الدينية والحكومة والمجتمع بدورهم الحقيقي في مد يد النصح والإرشاد للشباب العراقي وترسيخ الثقافة الإسلامية المسامحة والأصيلة فكرا وممارسة في السلوك المجتمعي لدى الشباب، وهذا أدنى أدوار تلك المؤسسات إن أحبت واقعا الإضطلاع بدورها الكامل.
مقالات اخرى للكاتب