من ينظم إدارة المجتمع نفسيا؟ إن إدارة الحياة وتطبيعها، في ظروف الكوارث الجسيمة، تقتضيان حسن اكتشاف ألهيات عملية، يمكننا تسميتها بالألهيات الايجابية أو المنتجة أو النافعة أو التشبيعية، المثمرة إجتماعيا. بواسطة هذه الانشغالات المنتجة يتواصل الفرد مع العالم المحيط به، على نحو طبيعي وصحي ونافع. فبالعمل أو أوالحرفة (فنية أو مهنية) مثلا ، والتي هي أفضلها في الحياة اليومية، يمكن الفرد والمجتمع الانخراط في نشاط ايجابي، يساعد على تغيير العالم وتحسين شروط العيش فيه. في هذا الجانب قد تثور ثائرة رجال الدين، الذين يرون في هذه الأفكار تقليلا من قيمة الإيمان الديني، أو في أحسن الأحوال كسرا لواحدية احتكار الحقيقة، التي تميز الفكر الديني، وتطبع الفكر الشمولي عامة دينيا أو لا دينيا. ولكن دراسة النظريات الاجتماعية والنفسية دراسة عميقة، قد توصل الى مشتركات غير متوقعة. فبصرف النظر عن الميول الإلحادية في الفكر الفرويدي، التي هي حقيقة لا يستطيع أحد إنكارها أو إزالتها، فإن النظر الى الدوافع البشرية وتعديلها الى ما فيه مصلحة الإنسان والخير والعدالة والحرية، مهمة أساسية ووظيفة رئيسة من وظائف المجتمع البشري كله. لأن البحث عن المجتمع العادل، المسالم، المتوازن، المضمون العيش، هو غاية أساسية من غايات الوجود، سواء اتمت صياغتها من قبل إنسان أو إله، أو جاءت من فم نبي أو طبيب، أو من فم رجل دين أو رجل علم وفكر. إن الغايات النبيلة هدف مشترك للبشر كافة. لكن تسييس الدين حالة خاصة جدا، أما تسييس الطائفة فهو حالة أكثر خصوصية وتعقيدا، يجب أن تناقش علميا لا عقائديا. ويظل تسييس العواطف وتصعيدها الحالة الأعقد والأكثر إثارة، التي تحتم علينا مناقشتها اجتماعيا وسياسيا، حينما يكون السياسي عاجزا عن إدراك خطرها، في حال كونه بريئا حقا، ولم يكن مساهما عن قصد في صناعتها. إن فرويد، اليهودي الأصل، لا يؤمن بدين محدد، ويخص أصول المسيحية واليهودية بنقد عميق، من دون أن ينسى التمييز الذي يلاقيه اليهودي على يد المجتمعات المسيحية " رغم خدماتها (اليهودية) الجليلة وتميز أفرادها". إن موقف فرويد من الدين يشبه الى حد ما، وينبع أيضا، من موقفه المتعلق بموضوع الغرائز، كحجر أساسي في نظرية التحليل النفسي. فالدين هو الأب، وهو التطور اللاحق لعلاقة الفرد بالطوطم، الذي هو في الأصل الأب، الذي تمرد عليه الأبناء، ونزعوا سلطته، وأحتفظوا به رمزا للتقديس، لا يجوز قتله أو تزوج امرأته. هذا هو الأساس التفسيري لموضوع الدين عند فرويد. أما الدين كنشاط اجتماعي فإن فرويد يلتقي مع عبارة ماركس، الشهيرة، التي أسيئ فهمها وتأويلها من قبل كثيرين، غلاة المتعصبين خاصة. إن إلحادية فرويد لا تمنع الدارس من الاهتمام بمنهجه والاستعانة بخبراته العلمية. ومن المفيد هنا أن نشير الى أن فرويد قام في كتابه (مستقبل وهم)، بانتقاد نفسه على ما أبداه من تقييم سلبي للدين حينما قال: " توصلت في زمن لاحق الى صيغة أعدل في هذا التقييم. فمع التسليم بأن قوة الدين تكمن في صدقه، أوضحت ان هذا الصدق ليس صدقا ماديا، بل تاريخي". وهويشير هنا الى الأفكار التي وردت في كتابه (حياتي والتحليل النفسي)، الذي صدر عام 1925 ، الذي أكد فيه على وجود تشابه بين الطقوس الدينية وبين الأفعال الوسواسية القهرية. حينما لا يتمكن الفرد من إشباع دوافعه الغريزية إشباعا تاما، يضطر الى ممارسة مجموعة متنوعة من المسكـّنات، التي تعينه على تقبل قسوة الحياة ومشاكلها. بعضها يهدف الى إشغال الغرائز، ويسميها فرويد أُلهيات (من تلهية) ويعطي مثالا على هذا، مأخوذا من قصة الفرنسي فولتير، المسماة (كانديد). في هذه القصة يطرد (كانديد) من القصر، الذي يعيش فيه ويذهب للبحث عن الحقيقة. يمر (كانديد) ببقاع مختلفة، حتى يصل الى البقعة الخيالية المختفية بموانع الطبيعة عن أعين "الأوروبيين الطماعين الغزاة"، التي تعود الى حضارة الأنكا، في أميركا الجنوبية، حيث لا شرط ولا جيوش ولا محاكم، والذهب يوجد كالحصى في الطرقات، ولا قسسة أو رهبان، والإيمان بإله واحد، هو إله الكون" من دون إرغام. لكن (كانديد)، بعد سلسلة من الأحداث، يعود الى مسقط رأسه في ألمانيا، مزودا بالخبرة اللازمة. وحينما يسأله أستاذه عما يجب فعله الآن، يجيبه: "يتوجب علينا أن نزرع حديقتنا". والزراعة هنا تعني العمل، والذي يرى فيه فرويد آليّة إيجابية مفيدة، لأنها تساعد على إقامة أساس الحضارة من جانب، وتكبح الميول الغريزية البدائية. "وهو من أكثر أقوال فولتير تشاؤما، ومؤداه أن العمل إن لم يكن دواء يشفي بؤس الشرط الإنساني، فهو على الأقل (ألهية) تحجبه عن الأنظار" (هامش المترجم جورج طرابيشي- قلق في الحضارة – ص 21) ومن وسائل الإشباع البديلة الفن والأدب، اللذان يمنحان المرء فرصة لصناعة عالم تعويضي، لإرضاء الذات. أما الوسيلة الثالثة فهي تخدير الأنا، وفي هذا الجانب تدخل المسكرات والعقاقير. يُدرج الدين ضمن المسكـّنات أيضا، لكنه يشغل وضعا خاصا " ليس من اليسير" تعيينه. تضطر "الكائنات البشرية بأعداد كبيرة الى تأمين السعادة لنفسها والى الاحتماء من الألم بواسطة تشويه خرافي للواقع. والحال ان الأديان البشرية يجب ان تعتبر هذيانات جماعية من هذا النوع. وطبيعي ان من لا يزال يشارك في هذيان ما لن يعرف أبدا بأنه هذيان" (قلق في الحضارة- ص 20) حينما نتمعن في الجانب العملي، وليس الفلسفي، لهذا التفسير الطبي، نجد أن فرويد، يصل الى النتيجة ذاتها، التي وصل اليها ماركس: "الدين أفيون الشعوب". وهي نتجة فهمت على إطلاقها، ولم تفسر ضمن سياق قولها. ولا أعني بالسياق هنا تأويلها السياسي، وربطها بتحالف الكنيسة والعرش، وهي الحجة التبريرية الساذجة، التي اعتاد أنصار الشيوعية استخدامها للدفاع عن الماركسية. إنما أعني ربطها ببنائها اللغوي والمنطقي. إن ماركس وفرويد ملحدان بامتياز. هذا أمر لا يحتاج الى نقاش أو جدل أو تبرير تنظيري، أو نفاق تفسيري يهدف الى خداع الآخرين وغشهم. لكن ماركس نظر الى الدين هنا ضمن سياق اجتماعي، كما فعل فرويد، الذي نظر اليه ضمن سياق نفسي ( تحليل الدوافع). أي انهما نظرا اليه طبيّا وعلميا. والموقفان لا يعنيان إنكار دور الدين في المجتمع كقوة روحية، أو إنكار جوانبه الخيّرة. إن تسييس الدين يعني تحويل الدين من منظومة إيمانية عقائدية، الى قوة ملحقة بجهاز القمع وبسلطة الأحزاب، الظالمة خاصة، سواء أكانت كنيسة أو مسجدا أو كنيسا أو معبدا بوذيا وهندوسيا ووثنيا. وهذا بدوره يقود الى تحويل الدين الى سلاح للخصام الإجتماعي، يُسيّر من قبل قوى لها مصالح خاصة، أهم وأقدس من الدين نفسه كإيمان وعقيدة. إن اتحاد سلطة الكنيسة بسلطة الحاكم المستبد كانت خلف عبارة ماركس، أمّا تصعيد النوازع البدائية والغريزية باسم الدين، فهو الجزء الذي يخص فرويد. إن تسييس الدين، يعني جرّه الى مواقع القتال الاجتماعي، وتنفيس دوافع الفرد العدوانية بطريقة تضرّ بمصالح الإنسان، ولكن تحت شعار المقدس والشعور العاطفي الجمعي. وهذا ما يحدث الآن في العراق. إن معركة التكفيريين الطائفيين، ومن جلبهم أو فتح ممرات دولية وحاضنات محلية آمنه لهم، وما يقابلهم من فصائل عنفية طائفية، تعمل باسم الأحزاب أو باسم الدولة، هي صورة من صور التصعيد الغريزي، القائم على بواعث عدوانية، هي بواعث الهدم والتدمير، التي تتعارض تماما مع مبدأ الحياة والوجود، بما فيها مبادئ الإيمان الحقيقي. وهذه نقطة التقاء مشروع "بايدن" مع مشاريع القوى العرقية والطائفية العراقية، التي سُميت بتقاسم المصالح، أو الشراكة، أي الشراكة في قتل المواطن، والشراكة في تدمير جوهر ومعنى المواطنة. عند العودة الى تعريف الثقافة وربطه بموضوع الأنا واللبيدو، أي بموضوع الضمير والغرائز، نجد أن فرويد يصل الى خلاصة إجتماعية على غاية الأهمية، على الرغم من أنها تحتاج الى مناقشة عميقة والى تعديل ضروري، لكي تقبل كحقيقة علمية. وبما أننا نتحدث عن التعديل في الدوافع والسلوك، لا بد من الإشارة هنا الى أنه على الرغم من أن فرويد أحد أكبر العقول العلمية في التاريخ المعاصر، إلا أنه يعترف في مواقع كثيرة أنه يتحدث عن أمور يعرفها الناس جميعا، ويعترف أيضا بأن بعض الأمور لا يجد لها جوابا، أو لا يجد في شخصه الفرد الأقدر على إعطاء جواب ناجع. وتلك خصيصة قلما نجدها عند المفكرين، ناهيك عن الجهلة. إن العدوانية بشكل عام، وغريزة التدمير، كما تظهر في أغلب الحروب مثلا، هي النشاط الفطري الداخلي، المعاكس للثقافة أو الحضارة. ( ملاحظة: يبرر فرويد بعض الحروب، التي يرى أنها رد فعل ايجابي، ولا نشاطره في ذلك من حيث المبدأ. ومثله عبارة "الحرب قاطرة التاريخ"، التي نسي الماركسيون أن يضيفوا اليها كلمة: الوحشية، لكي تكون مطابقة تماما لمذهبهم الجدلي. كما أن العلم يؤكد أن الوظيفة العدوانية لجهاز المناعة في الجسم ولبعض الخلايا، ذات طبيعة ضرورية لغرض استمرار الحياة) أي أن فرويد يضع الغرائز العدوانية في تناقض تام مع ما نصطلح عليه بالثقافة. لأن الثقافة لديه هي إنتاج وسائل تحويل الطبيعة لمصلحة الانسان، فكريا وعمليا وفنيا. فالثقافة هي عنصر حياة، كما أن السعادة عنصر حياة، لذلك يبعد فرويد عناصر التدمير أو الموت عن موضوع الثقافة. وفي هذا الموضوع خلاف كبير. فالبعض يرى أن الدوافع السلوكية حينما تجد مناخا عقليا واجتماعيا ملائما، أي حاضنة، تجد نفسها أكثر حرية في الإعلان عن هويتها وغاياتها، وبالتالي تتحول مع طول الممارسة الى بنية معرفية وسلوكية وأسلوب تفكير وحياة تطبع أوجه المجتمع كافة، حتى من يعارضونها، بقدر أو آخر. أي تصبح صيغة قريبة من مفهوم النظام البنيوي. لذلك فإن هذا التضاد، مجرد تضاد نظري. لأن قوانين وسلوك ومفاهيم الشر لا تقلّ ملموسية في وجودها، بحسب فرويد نفسه، عن مفاهيم ومشاعر الخير، وربما تتفوق عليها في أحوال كثيرة. إن تنظيف مصطلح ثقافة وتطهيره، من طريق استبعاد عناصر الشر منه، رغبة جميلة، لكنها تخلو من الوظيفة العملية، ومن الغائية الاصطلاحية. وربما يكون مصطلح حضارة ومدنية أكثر قدرة على استيعاب مفهوم الواقع المتدرج في سلم الارتقاء والانتقال من الشر والعدوانية السافرة، بحدود نسبية. أي يمكننا نسبة كل ما هو خير وإنساني وعادل الى المدنية والحضارة، ونسبة ما هو معاكس لها، الى القيم الثقافية السلبية، في حضارة ما أو مدنية ما. سيظل هذا الموضوع نظريا خالصا، لكنه موضوع يجعل الكثير من مزاولي الشر والعدوانية يبتشرون به، لأنه يخرجهم من التعريف. وهنا لا بد أن نشير الى أن إخراج الشر من حظيرة الثقافة، لا يعني لدى فرويد الدعوة الى نسيانه أو تناسيه، على عكس ما يحسب بعض الغافلين والشريرين. إن فرويد يريد إخراج السلوك العدواني من حيز الفعل الإنساني القويم، وإعادته الى لحظته البدائية، لحظة ما قبل ظهور القيم والحضارة. أي إعادته وردّه الى أكثر الأشكال السلوكية بدائية وتخلفا، السلوك الغريزي، غير المهذب عقليا وسلوكيا. لذلك يضعه في موضع التعارض التام مع الثقافة. إذا كانت خاتمة قصة "كانديد" لفولتير أساس الفكرة الفرويدية، عن كون العمل أحد الالهيات والمشبعات الايجابية، فإنه من المؤكد أن تكون عبارة ماركس الأدبية الصياغة "الدين أفيون الشعوب"، هي الجذر المعرفي لفكرة فرويد عن ربط الدين بالمشبعات، المصنفة تحت عبارة ألهيات. يمكننا إعادة النظر مجددا في عبارة ماركس، التي فسرنا جانبها السياسي قبل قليل، وإخضاعها الى معايير التحليل اللغوي، بالترابط مع مبادئ علم النفس التحليلي. حينما نقوم بتجريد العبارة من صيغتها الدينية، نجد أنها لا تختلف كثيرا عن التعبير القائل: كرة القدم أفيون الشعوب، أو النسيان أفيون الشعوب. فقد يعترض كثيرون على منطقية هذه العبارات، لكنهم لن يقعوا تحت تأثير الاستفزاز العقائدي أو الايديولوجي، مهما كان شغفهم كبيرا بكرة القدم، أو حبهم للنسيان. هنا لا تحتوي العبارة على صفة إنكارية للوظيفة الإيمانية، ولكن يوجد توصيف معين للفعالية النفسية الاجتماعية يحتمل الخطأ والصواب. مما لا شك فيه أن هذا التجريد البحثي يمنع توجيه النص لاهوتيا. من هنا نرى أن تعبير ماركس كان صحيحا تماما، لأن ماركس، وفرويد أيضا، كليهما، لا يؤمنان بالدين ولا يهدفان الى تفسير طبيعته كإيمان. لذلك لم يكن من مذهبهما توجيه النص لاهوتيا. إن التركيز على الوظيفة ذاتها، بصرف النظر عن تأويلها سياسيا، هو حجر الأساس في واقعية فكرتي ماركس وفرويد عن الدين كألهية. إن فكرة النظر الى الدين باعتباره موضوعا للدراسة لا يمكن إنكارها، إذا ما نظر اليها نظرة خالية من التعصب الايماني، وإذا ما خففت منها مثيراتها الإلحادية، المرتبطة بالقائل وليس بالقول. إن الحياة اليومية تعطينا مئات الأمثلة على فشل القوى الدينية العراقية (الشيعيّة والسنيّة) في تشغيل الفعالية المجتمعية تشغيلا سليما، يمكنه من الأخذ بيد المواطن العراقي، الخارج من بلوى الحروب، والغارق في دوامة العنف، الى بر الأمان نفسيا واجتماعيا. إن إغراق المجتمع في المشروع الديني، بديلا من وجود أفق منهاجي لإدارة الحياة بكل تشعباتها الدينية واللادينية، هو هدف القوى الدينية، الطائفية، التي تسيطر على واجهات الأحداث السياسية االراهنة، بصرف النظر عن كون هذه القوى حاكمة أو محكومة، ملكية أو جمهورية، شيعية أو سنية، تكفيرية صريحة أو مستترة. إن احتكار الحقيقة، واحتكار طرق وسبل تنظيم وإدارة الحياة الإجتماعية، من طريق تعميم المنظور الديني على المجتمع، إنما هو ضرب من العقائدية الشمولية، بأكثر أشكالها بدائية وتخلفا. وهو مشروع مكمّل، من الناحية السياسية، لفشل حكومات العسكر، وما تلاهم من ورثة عسكريين بثياب مدنية. لا أحد في العراق يستطيع أن يدرس واقع العنف اليومي بعمق تحليلي كاف ومرضّ. نظرا لسرعة تتابع وقائع العنف واستمرارها وشمولها. وربما يكون أقصى ما يمكن الوصول اليه، في أحسن الأحوال، هو التركيز على تتابع الأحداث ووصفها والتعليق عليها. إن هذه النتيجة، مهما كانت إيجابية- ناقدة وفاضحة للإرهاب والفساد- تـُجيّر في نهاية المطاف لفائدة التيارات العنفية المتصارعة، ولمصلحة استمرار حالة الفوضى والضياع السياسية. لأنها تغدو مجرد تحصيل حاصل، وجزءا من بنية الحالة النموذجية المطلوبة من قبل مديري لعبة العنف والفساد، وملمحا من مكونات المناخ العام النفسي والشعوري والمعرفي، الذي تريد القوى المتصارعة جر المواطن اليه جرا، وطمره فيه. أي وضع المواطن في دوامة غير منقطعة من الأفعال العنفية وردود الأفعال، وربطه وجوديا وشعوريا بعجلتها، وإشغاله بها. وهذا يعني أن المواطن، مع طول تكرار الأحداث وتواترها، يقع بشكل حتمي، فريسة للإحباط التام واليأس والملل، وقبل كل ذلك يصاب بحالة من فقدان اليقين والبلبلة التامة. بهذا يغرق المواطن في تفاصيل الأحداث غرقا تاما، ولا يعود يقوى على تفسير الأحداث وردها الى جوهرها الحقيقي، السياسي والاجتماعي. وهذا ما تريده القوى المتصارعة: وضع المواطن في حالة إرباك شعوري دائم، حتى يفقد مقدرته على الرؤية السليمة، وتاليا يفقد مقدرته على اتخاذ القرار المناسب. للخروج من هذا المأزق يتوجب البحث عن منظور تركيبي تحليلي، يتولى مهمة جمع التفاصيل الصغيرة المهملة، ولكن النموذجيّة، التي نمر عليها يوميا مرور الكرام، والتي تبدو هامشية وتافهة. أمّا الخطوة التالية فتقوم على ربط الوقائع ببعضها، والخروج منها باستخلاصات، تتجاوز حدود الحدث التفصيلي اليومي المهمل، وتتجاوز في الوقت عينه، حدود الغطاء التبريري، العاطفي أو الدعائي المثير، الذي يغلف تفاصيل الحدث اليومي. بهذا ربما نفلح في الاقتراب من لبّ الفعالية العنفية ومصادرها الداخلية، المحتجبة تحت الأبخرة الدينية، وغبارالأتربة العرقية والمناطقية. (جزء من الفصل الرابع- الباب الأول من كتاب: الثقافة العراقية تحت ظلال الاحتلال)
نطلب من زوارنا اظهار الاحترام, والتقيد بالأدب العام والحس السليم في كتابة التعليقات, بعيداً عن التشدد والطائفية, علماً ان تعليقات الزوار ستخضع للتدقيق قبل نشرها, كما نحيطكم علماً بأننا نمتلك كامل الصلاحية لحذف اي تعليق غير لائق.
اخبار العراق اليوم تصلكم بكل وضوح بواسطة العراق تايمز