بعد تَجَمُد الكرة الأرضية، وبدء ذوبان الجليد عنها، كان لابد للذوبان أن يحصل أول الأمر عند خط الاستواء الذي تتعامد عليهِ أشعة الشمس بشكلٍ مُباشر .. هذا ما دعى العالِم (ج.برونوظسكي) صاحب كتاب (إرتقاء الإنسان) أنْ يجزم بأنَ وجود أول إنسان كان في أفريقيا الإستوائية .. ومُؤكِداً بأن بدء خلق الإنسان للحضارة كان في مَنطقة الشرق الأوسط، (تلك المنطقة مُعتدة الحرارة).
ولكنني في هذهِ المقالة المختصرة أحاول أن أُذكّر بأن الإنسان قد وصل إلى قارات أُخرى أيضاً خلال تجواله الطويل فوق الأرض .. وهكذا وصل إلى العالم الجديد واالذي تم اكتشافهُ مؤخراً قبل خمسة قرون .. والذي إبتدأ بتأسيس حضارة متأخرة جداً هناك بالمقارنة مع العالم القديم.
فمن الواضح أن السبب يرجع إلى أن الإنسان قد جاء إلى العالم الجديد في وقتٍ متأخر. وقد أتى قبل أختراع القوارب، وهذا يعني ضمناً أنه وصل العالم الجديد سيراً على الأقدام عبرَ (ممر بهرنج) الذي كان متجمداً خلال العصر الجليدي الأخير. وتشير الدلائل الجليدية إلى أن هناك زمنين محتملين يُمكن أن يكون الإنسان القديم قد عَبر فيهما من نتوءات أطراف العالم القديم في أقصى الشرق –فيما بعد سيبيريا- إلى مجاهل الاسكا الغربية الصخرية القاحلة في العالم الجديد. وتنحصر الفترة الأولى بين سنة 28،000 ق.م و 23،000 ق.م، وتنحصر الثانية بين سنة 14،000 ق.م وسنة 10،000 ق.م. إذ أنه بعد ذلك رفع الفيضان الذي حدث من انصهار الثلوج، في نهاية العصر الجليدي الأخير، مستوى مياه البحر مرة أُخرى عدةن مئات من الأقدام موصداً بذلك الباب على سكان العالم الجديد، (وقاطعاً صلتهم بالبشر).
إن ما سبق يعني أن الإنسان قَدِمَ من آسيا إلى أمريكا قبل مدة لا تقل عن عشرة آلاف عام ولا تزيد عن ثلاثين ألف عام، وليس بالضرورة أن يكون الناس قد أتوا دُفعةً واحدة.
وتعكس الزراعة في منطقة وادي دوتشيللي هذا التأخر (في الهجرة والإستقرار). مع أن البذرة كانت قد زُرعت في أواسط وجنوب أمريكا منذ عهدٍ بعيد، فأنها عُرفت هناك منذ عهد المسيح فقط. وكان الناس آنذاك (في أمريكا الشمالية) غاية في البساطة، لا بيوت لهم، بل يعيشون في الكهوف، ولم يعرفوا صناعة الفخار إلا في حوالي عام 500 بعد الميلاد. وقد كانوا يحفرون مرابع لهم في المغائر والكهوف ذاتها، ويغطونها بسقوف من الطين واللبن المجفف بالشمس. وظل الوادي في تلك الحالة جامداً تماماً، حتى نهاية الألف الأول الميلادي عندما جاءت حضارة (بوئيبلو) العظيمة (Pueblo) وأدخلت البناء بالحجر.
يُعتبر وادي دوتشيللي هو عالم مصغر من الثقافات، وقد بلغ أوجه عندما بنت قبائل البوئيبلو تلك الأبنية الضخمة بعد عام 1000 للميلاد. وهذه الأوابد لا تُشكل تفهماً للطبيعة من خلال تطويع الحجارة والعمل بها فحسب، بل أيضاً تفهماً للعلاقات البشرية. لأن شعب بوئيبلو أنشأ هنا وفي أماكن أُخرى نزعاً من المدينة المصغرة. فالمنازل المقامة على حواف الصخور كانت ترتفع على شُرفات صخرية إلى خمسة أو ستة طوابق، وكانت الطوابق العلوية فيها متراجعة عن الطوابق السفلية. وكانت مقدمة البناء في مستوى الصخور بينما تنثني المؤخرة لتتطابق مع ميل الصخور. وكانت هذه المجمعات الهندسية الضخمة في بعض الأحيان ذات مساحة تصل إلى فدانين أو ثلاثة أفدنة وتتكون من عدد من الغرف يصل إلى أربعمائة غرفة أو أكثر.
إن الحجارة تُشكل جداراً، والجدران بيتاً والبيوت شوارع، والشوارع مدينة، والمدينة عبارة عن حجارة وأُناس. لكنها ليست أكواماً من الحجارة أو حشوداً من الناس. إذ أن الإنتقال من مرحلة القرية إلى مرحلة المدينة يتطلب بناء نظام اجتماعي جديد، مبني على أساس تقسيم العمل وتسلسل القيادة. وطريقة استعادة فهم ذلك هي أن نجوب شوارع مدينة لم يشاهدها أحد منا من قَبل، مدينة لإحدى الحضارات التي اختفت وانقضت.
تقع مدينة (ماشوبيكشو Machu Picchu) في أعالي جبال الأنديز في أمريكا الجنوبية على ارتفاع 8000 قدم عن سطح البحر. وقد شيدها شعب الإنكا، في أوج امبراطوريتهم حوالي عام 1500 بعد الميلاد أو قبل ذلك بقليل (بالتقريب في الوقت الذي وَصل فيهِ كولومبوس جزر الهند الغربية في أمريكا) وكان تخطيط المدينة أعظم منجزات هذا الشعب. وعندما غزا الأسبان بلاد البيرو واستباحوها عام 1532م تحاشوا التعرض لمدينة ماشوبيكشو وشقيقاتها من المدن وبعد ذلك طواها النسيان لمدة أربعمائة سنة، إلى أن أتى في أحد أيام شتاء 1911م عالم آثار شاب من جامعة ييل يدعى هيرام بنجهام وعثر عليها صدفة. وكانت عندها قد هُجرت لعدة قرون مضت ونُهبت تماماً وخلت من أي شيء عدا أبنيتها العارية كهيكل عظمي لم يبقَ فيهِ سوى العظم.
بيدَ أنه تَكمُن في هيكل تلك المدينة البُنية الحضارية لكل مدينة في أي عصر وفي أي مكان من هذا العالم.
ومن هُناك بدأت دراسة شعب إنقرض وحضارة وُلدت وانقرضت ولم تتأثر بما قبلها، أو تؤثر فيما بعدها، تلك هي حضارة الإنكا.
ومثلما ندري فإنهُ يترتب على المدينة أن تعيش على أساس من الأرض الزراعية التي تعطي فائضاً زراعياً وافراً، والأساس الظاهر الذي اعتمدت عليهِ حضارة شعب الإنكا كانت زراعة الشُرفات والمدرجات الجبلية. وبالطبع لا نجد الآن في تلك الشُرفات العارية سوى بعض الأعشاب. بؤيد أن البطاطا كانت قد زُرعت هنا (وهي من محاصيل البيرو الأصلية)، وكذلك الذرة التي كانت قد زُرعت في الشمال وجاءت إلى هنا وأصبحت إحدى محاصيل الإنكا. ولما كانت هذه المدينة –بشكلٍ ما- مدينة طقوس واحتفالات فقد زُرعت في مدرجاتها أيضاً بعض النباتات الترفيهية التي تنمو في المناخات الاستوائية مثل نبات الكوكا، وهو عشب بري مُخدر لم يكن يُسمح بمضغهِ إلا للنُخبة الارستقرطية من شعب الإنكا، عندما كانوا يأتون للاحتفالات ومنه يستخرج الكوكائين.
إن زراعة هذه المدرجات لا يُمكن أن تقوم دون نظام للري وهذا ما أقامته فعلاً امبراطورية الإنكا والامبراطوريات التي سبقتها، فشبكة المياه كانت تجري عبر هذه المدرجات، من خلال قنوات أرضية وقنوات محمولة على عمد، ثم تمر إلى الوديان الهادرة نحو الصحراء حتى تصل إلى المحيط الهادي، جاعلة الأرض الخضراء مُزهرة. وتماماً كما في الهلال الخصيب حيث كان الأمر الهام هو السيطرة على الماء، كان الوضع نفسه في بيرو إذ بُنيت حضارة الإنكا على السيطرة على الري.
إن إقامة نظام ري واسع وكبير، يمتد في جميع أرجاء الامبراطورية، يتطلب وجود سُلطة مركزية قوية. وهذا ما كان في بلاد ما بين النهرين، وبعدها في مصر، والآن في امبراطورية الإنكا. وهذا يعني أن هذه المدينة –وكل المدن الأُخرى هنا- استندت إلى قاعدة غير مرئية من الاتصالات، بحيث إن السُلطة كانت قادرة على التواجد وعلى اسماع صوتها في كُل مكان، بحيث تصدر الأوامر من المركز، وتأتي المعلومات اليهِ من كُل حدبٍ وصوب. وكانت ثلاثة اختراعات مسؤولة عن بقاء شبكة السُلطة، وهذ هي الطرق والجسور (في بلاد وعرة كهذهِ) وايصال الرسائل وتسلمها. وقد تمركزت هذه الأمور في هذه المدينة عندما كان يسكُنها هنود الإنكا الحُمر، ومن هذه المدينة انتشرت إلى خارجها. إنها ثلاث حلقات للاتصال تتصل بواسطتها كُل مدينة بكُلِ مدينة أُخرى، ولكننا نتحقق فجأة إنها مُختلفة في مدينة ماشوبيكشو عنها في المدن الأُخرى.
وتعتبر الطرق والجسور والرسائل في امبراطورية عظيمة اختراعات متقدمة دائماً، لأنها إذا ما قُطِعَت انهارت السُلطة وتقطعت أوصالها، لذلك تُعتبر هذه الوسائط في الأزمنة الحديثة دوماً الهدف الأول عند حدوث ثورة أو انقلاب. ومن المعروف الآن بأن امبراطورية الإنكا قد أولت هذه الأمور الثلاثة عناية كبيرة، علماً بأنه لم تكن ثمة عجلات على الطُرق، ولا أقواس تحت الجسور كما أن الرسائل لم تكن خطية. ومن المُسَلَم بهِ أن حضارة الإنكا م تبتكر هذه الوسائط عند عام 1500 بعد الميلاد، ذلك أن الحضارة في أمريكا بدأت مُتأخرة عن حضارة العالم القديم بعدة آلاف من السنين، وقد هُزمت هذه الحضارة واستبيحت قبل أن يتسنى لها تحقيق جميع اختراعات العالم القديم.
ويبدو غريباً جداً أن الهندسة التي نقلت حجارة البناء الكبيرة على الأعمدة المتدحرجة قد فاتها استعمال العجلة، ولكن يجب أن لا يغيب عن أذهاننا أن الشيء الأساسي في العجلة هو المحور الثابت. كما يبدو غريباً أيضاً أن تقيم هذه الحضارة الجسور المُعلقة وتفوتها الأقواس في الجسور. لكن الأغرب من ذلك كُله هو وجود حضارة كان بوسعها حفظ سجلات للمعلومات العددية بعناية، ولكنها لم تستطع اختراع الكتابة لتدوينها. فقد كان امبراطور الإنكا (أُمياً) مثل أفقر مواطن في مملكته، أو مثل قاطع الطريق الاسباني الذي أطاح بهِ.
لقد كان مجتمع الإنكا متماسكاً ومترابطاً بشكل يدعو للإعجاب. فلكلٍ مكانه وكلٌ مؤمن عيشه، وكل فرد سواء كان فلاحاً أو حرفياً أو جندياً كان يعمل لشخصٍ واحد، هو رئيس الإنكا الأعلى. وكان هذا هو رئيس الدولة وكان أيضاً التجسيد الديني للأله. والحرفيون الذين نحتوا بمحبة الرمز الذي يُمثل الصلة بين الشمس والهها ومليكها الإنكا، إنما كانوا عمالاً يشتغلون عند ملك الإنكا نفسه.
ولذا كانت –بالضرورة- امبراطورية هشه سريعة الزوال بشكل غير عادي، ففي أقل من مائة عام، أي من عم 1438 وصاعداً، احتل شعب الإنكا ما طوله ثلاثة آلاف ميل من الشريط الساحلي أي أنهم سيطروا تقريباً على ما يقع بين جبال الأنديز والمحيط الهادي. بيد أنه في عام 1532 قدم إلى البيرو مغامر أسباني أمي تقريباً يُدعى فرانشيسكو بيزارو، ومعه ما لا يزيد عن اثنين وستين حصاناً مخيفة ومئة وستة من جنود المشاة، وبهذه القوةاستطاع بين عشيةٍ وضحاها هزيمة هذه الامبراطورية العظيمة واحتلالها.
ولكن كيف تم ذلك؟ كان ذلك بقطع رأس الهرم: بأسر ملك الإنكا. ومنذ تلك اللحضة تهاوت الامبراطورية وانهارت ، واصبحت المدن الجميلة مفتوحة عارية امام ناهبي الذهب واللصوص الطامعين.
ولكن المدينة بالطبع، اكثر من مجرد سلطة مركزية. فماهي المدينة؟ المدينة أُناس، والمدينة حَيَة، انها مجتمع يعيش على قاعدة من الزراعة، أغنى بكثير مما في القرية، بحيث أن بمقدورها ضمان معيشة كل نوع من الحرفيين وترك كلٍ منهم يعمل متخصصاً مدى حياتهِ.
ولكن الحرفيين عندما حدث الغزو أختفوا، وتحطم كل ما صنعوه فالناس الذين صنعوا ماشوبيكشو -مثل صناع الذهب والنحاس والنساجون وصانعي القدور- سُرقت كل أعمالهم. فالقماش المنسوج تحلل وتآكل، والبرونز تلاشى، والذهب نُهب. ولم يبقَ سوى عمل البنائيين أي مهارة الصناعة الجميلة عند الرجال الذين صنعوا المدينة. ذلك أن الذين شيدوا المدينة لم يكونوا أباطرة الإنكا، بل الحرفيون المهرة. بيد أنه من الطبيعي، إذا كنت تعمل عند الإنكا (أو عند رب أي عمل آخر) أن يحكمك ذوقه وبذا لا تستطيع ابتكار أي جديد. وهكذا ضل هؤلاء الرجال يعملون (حتى نهاية الامبراطورية) في البناء على نفس المنوال دون أن يتوصلوا الى ابتداع القوس الحجري. وهذا هو مقياس الفجوة الزمنية التي كانت تفصل العالم الجديد عن العالم القديم. ذلك أن هي تلك النقطة التي توصل إليها اليونانيون قبل ألفي سنة وهي النقطة التي توقفوا عندها أيضاً.