لا توجد لحد الآن خارطة سياسية في العراق تتجاوز ثوابت (المثلث الشيعي السني الكردي) الذي رسمه بريمر بعد احتلال العراق عام 2003. وما يراقبه المتابع من مظاهر الاستقطابات والتناحرات السياسية هذه الأيام، هي تنافس حول ترتيب المواقع داخل شبكة الأضلاع الثلاثة كل على حدة، مع صراع داخل القطاع العربي حول حجم المساحات الجيوسياسية الطائفية.
فمن جانب هناك معارك سياسية داخل البيت السياسي الشيعي بين حزب الدعوة من جهة، وقيادتي مجلس الحكيم وتيار مقتدى الصدر من جهة أخرى، وكذلك داخل الكتل التي تفككت عن المشروع الوطني الذي قادته العراقية منذ عام 2006 وأصبحت كل واحدة من هذه الكتل تدعي تمثيلها للمكون (العربي السني) لكي تأخذ مكانتها في هذا الضلع المريض. ومن ثم داخل القيادات الكردية التي لم تصمد كثيراً أمام الخلافات الكردية- الكردية بين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني من جهة وكتلة التغيير المعارضة من جهة أخرى.
هذا المناخ الذي لا تتوفر فيه الحدود الدنيا من تقاليد العمل الديمقراطي السليم، مشحوناً بوضع أمني منهار في ظل عملية سياسية مترهلة عمرها تسع سنوات لم يسترد المواطن خلالها الحدود الدنيا من حقوقه المسلوبة قبل وبعد 2003، في ميادين الخدمات ومستوى المعيشة والأمن الشخصي والجماعي.
في وقت يستمر عمر المخادعة الكبرى تجاه الشعب في شعارات الديمقراطية ومفرداتها في الانتخابات والحريات العامة التي صممت أولاً لحماية مصالح ومكاسب الأحزاب لكي تستمر في الحكم، وغياب السلم الأهلي وسيادة روح الانتقام الذي يصل إلى مستوى دموي مفزع، وسلب الحقوق وعدم استرجاعها على (الهوية) إلى جانب ما تحققه غالبية أدوات السلطة من قوة فرض الهيمنة والتحكم القاهر بمصائر الناس دون روادع. إن المعركة السياسية الكبرى لا تقوم في العراق، وفق العرف الديمقراطي، على الانجاز للمواطن صاحب المصلحة الأولى، والتي ينبغي للفاشل فيها أن يتنحى عن المسؤولية ليفسح الطريق أمام الآخرين، إنما تستخدم جميع الوسائل والأدوات السلطوية من مال وقوة للحفاظ على المراكز وفق ترتيبات الدورات الانتخابية في مجالس المحافظات والانتخابات العامة. فالتعبئة السياسية المكثفة التي امتدت لأكثر من أربعة أشهر مضت، وظفت خلالها أزمات الحقوق والمطالب الشعبية (اعتصامات المحافظات الست) وكذلك أيقظت أزمات سياسية مفصلية بين إقليم كردستان والمركز، وشحن المناخ الأمني بمزيد من المفخخات، وكواتم الصوت حصدت أكثر من ثلاثة آلاف عراقي خلال الأشهر الأربع الماضية سواء من قبل تنظيم القاعدة أو أدوات تعمل لجهات مستفيدة داخل العملية السياسية، وقد تمكن المالكي ضمن هذه البيئة المريضة الوصول إلى مستويات ضابطة لإيقاعات صدارته وحزبه رغم الصورة الشكلية لانتخابات مجالس المحافظات، والاستمرار في إدارة الحكم وإزاحة إمكانيات إسقاطه في إجراءات سحب الثقة وفق تحالفات هشة بين الحكيم ومقتدى الصدر والبرزاني وعلاوي. بل تمكن المالكي رغم إخفاقات عدم الإنجاز للمواطنين، وتصاعد مستوى الفساد المالي في مرافق الحكومة، من إحكام سيطرته على استخدام أدواته لكسب المرحلة المقبلة، بسبب الدعم الإيراني الأميركي المزدوج والمستمر.
ورغم خسارة حزب الدعوة حصراً وليست قائمة «دولة القانون» في الحاضنة الشيعية لمحافظات الفرات الأوسط والجنوب في انتخابات مجالس المحافظات وذهابها لتحالف مجلس الحكيم وتيار الصدر، ورغم ما يقال في تسريبات صحفية حول إمكانية رفع طهران دعمها لوصول المالكي مجدداً للدورة المقبلة في رئاسة مجلس الوزراء، ودعم ترشيح ممثلين آخرين من التيار الصدري أو مجلس الحكيم في الانتخابات المقبلة 2014، إلا أن المؤشرات تقول بأنه ما زال يمتلك أوراقاً عديدة في المناورة في كسبه المحسوم لولاء الكتل السنية- المطلك والنجيفي وغيرهما من الجماعات والعناوين الثانوية الأخرى المحسوبة على السنة من جهة، وإقليم كردستان (البرزاني) من جهة أخرى، مع إصراره وتشدد حزبه في تمرير قانون تجريم حزب البعث في البرلمان برضوخ مجدد من الزعامات السنية التي سبق لها وأن مررت الدستور وغيره من القرارات المجحفة، إضافة إلى عدم تنفيذه لمطالب المعتصمين في الأنبار والمحافظات الخمسة الأخرى، لكي يلوي جميع الأذرع ويخضعها لإرادته، وهذه السياسات تدّل على استمراره ببرنامجه القاسي والمؤذي وغير العادل تجاه المكوّن الشعبي السني.
إن البيئة الشعبية والحاضنة الانتخابية ما زالت تعتمد على شحنات العاطفة الدينية والمذهبية التي انتعشت بعد 2003 بسبب حالة الكبت السابق، إضافة إلى توظيف وجهاء العشائر وما يخلقه من إرباك سياسي، أو بفعل المحيط الساخن للتيار الإسلامي في المنطقة رغم الاختلاف المذهبي، أمام انحسار وفشل الأدوات التنظيمية للتيار الليبرالي العلماني في العراق رغم جميع الإمكانيات الانتخابية التي توفرت له عام 2010، والتجأت معظم تلك الأدوات إلى ملاذاتها المذهبية والعشائرية داخل بلدانها ومنها العراق.
مع إنه ما زال المشروع الوطني العابر للطائفية جاذباً للشعب، ويحظى بإمكانيات النجاح في ظل الإخفاقات العامة لمشروع الإسلام السياسي (الطائفي السني والشيعي) في تجربة الحكم سواء في العراق أو البلدان العربية بعد الانتفاضات الشعبية لتونس ومصر وليبيا.
ما زال المالكي يمتلك فرصته الأكثر رجحاناً عن غيره من الزعامات الشيعية في التجاوب مع «المظلومية السنية» حسب نظرية المظلومية الطائفية، والمظلومية الشعبية، والتخلي الجذري والمحاربة العملية للمشروع الطائفي المستحكم بالسلطة وأدواتها. مع ما تكشفه هذه الأيام من مظاهر الانفتاح المدروسة من قبل بعض الزعامات الشيعية على المكوّن السنّي عبر الشعارات المنصفة والمرنة، وتشكل تحدياً خفياً للمالكي، لكن ما يقال في الكواليس إنها عملية توزيع أدوار، لأن جميع أطراف التحالف الوطني الشيعي تلتئم تحت إستراتيجية واحدة.
المثلث الطائفي مريض في العراق، وقد أعلن أكثر من مرة عن عجزه لقيادة هذا البلد، وستظل الأزمات تلد أخرى في دوامة مريرة تمنع نهضة هذا البلد العظيم بإنسانه وثرواته.
لكن المشروع الوطني العابر للطائفية ليس خيالاً رومانسياً، وقد ثبت نجاحه في انتخابات 2010 وهو وحده الذي يتمكن من ملء الفراغ السياسي إذا ما استطاع الخروج من أزمته البنيوية في منظوماته القيادية التي غرق أغلبها وتوزعوا على جزر المصالح الذاتية، وكشفها أبناء السنة الذين يتحدثون باسمهم قبل غيرهم، وكلفت العراقيين ثمناً باهظاً لا يقل عما ألحقه بهم المشروع الطائفي نفسه.
وأمام هذا المشروع الوطني فرصة وثبة جديدة بإمكانيات وقدرات قيادية مؤمنة بالشعب قبل الدولارات.
مقالات اخرى للكاتب