من أغرب العبارات التي سمعتها من أحد المهاجرين الذين أعتدت على التواصل معهم : ( عدلت عن فكرة العودة للوطن فلقد سمحت لنا السلطات بطبخ أكلات عراقية ووفرت لنا كافة المستلزمات)، ورغم غرابة الخبر الا انه لم يشكل لي صدمة كبيرة، فهو حاله حال الكثير من العراقيين المهووسين بالأكل حد الافراط، وان الاكلات التي كانت توزع عليهم هناك لا تعدو (تعتومة) عراقية يتناولها بين الوجبات بانتظار الوجبة الرئيسية، فلقد أعتدنا الاكلات الدسمة المشبعة بالدهون والنشويات، أهما الرز الحاضر الابرز في ولائم الغداء والعشاء على حد سواء، وبكميات تتناسب وكرم صاحب الوليمة، وليس بالأمر الغريب أن تجد من الطعام أضعاف حاجتك، ومن ثم يكون مصير أكثره للقمامة, وهذا الفعل لا يقتصر على الميسورين، فالفقراء بعضهم يستدينون مبلغ الوليمة ومن ثم تسدد من جمع مبالغ (الواجبات)، ففي مجالس العزاء تمتلئ جيوب أصحابه بالحمر والخضر، بل وان بعضهم يخصص محاسبا يقف بأحد أركان السرداق او القاعة ويمسك بيده سجلا وقلما، وما أن يدس المعزي بدنانيره حتى يسمع بأذنه همسة (يوم ثالث غداكم يمنه)، أما المقيمون من الاقارب وغيرهم فعلى صاحب العزاء أن يستنفر كل من معه لخدمتهم بوجبات (تبيض الوجه)، وهذا مخالف تماما لما كان عليه الاوائل، فلقد ورد عن رسول الله (ص) قوله (اصْنَعُوا لآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا فَإِنَّهُ قَدْ أَتَاهُمْ أَمْرٌ شَغَلَهُمْ).الا يدعونا هذا لمراجعة كثير من السلوكيات ولاسيما أننا نمر بظرف اقتصادي صعب للغاية، وأن الحمر والخضر باتت تشكل عبئاً على بعض المعزين، من أصحاب الدخل المحدود، بعضهم يقتطعها من قوت أطفاله، اليس من الواجب توجيه هذه الاموال لمن يبحثون في القمامة عن ما يسدون به رمق أطفالهم.
فنحن في بلد تقاذفته الازمات وخلفت مآسي كبيرة، ما يوجب علينا أن نتعامل بحكمة أكبر وان نضع الدنانير بمكانها الصحيح وان لا مكان للأفراط والتفريط في هذا الظرف العصيب، وان البطر يزيل النعم أن لم يكن أزالها.
في أحد مطاعم إسطنبول سالت أحد العاملين، كم قطعة من (الملفوف) في الطبق، قال ثلاثة، مع المقبلات والفاكهة، قلت له والله عندما تطبخ زوجتي( الدولمة)، آكل اكثر من خمس قطع عند عودتي من الدوام قبل أن اغيّر ملابس، ومن ثم أعود فأجدها وقد قلبت القدر بأكمله في صينية كبيرة فأنال منها ما انال حتى اتخم تماما، فرد علي صديقي الواقف بجانبي ضاحكاً : ما يؤكد صدق عباراتك انك لم تجد في اسواقه بنطالا بمقاسك.
في وليمة دسمة جدا أقامها أحد العاملين البسطاء بإحدى الشركات الاجنبية العاملة بالبصرة لاحد المسؤولين الاجانب، قام بشواء خروف ووضع تحته قدرا مليئا بالتمن، وطعمه الجوز واللوز وانواع أخرى من المطيبات، وحـــــــين وضع الطعام تفاجأ الضيف بكمية الطعام وما يحتويه من دهون فقال: لا آكل هذه الكمية من الطعام في ثلاث أشهر، واكتفـــــــــى بأكل قطعة من الخبز وقليل من اللحم، وقد يكون هذا السبب في كونه صحيح البنية وحركته نشطة رغم انه في السبعين من عمره .
في الماضي القريب كان أجدادنا يأكلون بعض الاكلات الدسمة لكن حركتهم وأعمالهم الشاقة تحرق من يوفره الغذاء من طاقة، المشي لمسافات بعيدة وصعود النخيل والحرث اليدوي للأراضي اضافة لركوب الدراجات الهوائية.
لذا كانوا أصحاء ويعمرون لسنوات طويلة، وبعضهم يقبل على الزواج من اكثر من زوجة في عقد الستين او السبعين، والمؤسف اننا اليوم لا نمارس الرياضة الا ما ندر، ونتنقل من سيارة مكيفة لغرفنا الابرد، وكل ما ناكله يدخر وبعضه يتحول سموما لأجسامنا.
لذا كثرت هذه الاعوام حالات الموت فجأة، والامراض المزمنة حتى في المراحل العمرية الصغيرة، والسبب هو عاداتنا الغذائية غير الصحيحة.سالت يوما أحد المرشحين لمجلس النواب للدورة الحالية عن سبب الولائم الكبيرة التي اقامها أثناء دعايته الانتخابية، ولم يركز على برنامجه الانتخابي كان جوابه حكمة هزيلة : (شبّع البطن تستحي العيون).
وختاما أعرف اني سأتلقى تأنيبا كبيرا من المقربين على هذه الكلمات فانا مثل الكثيرين أعاني السمنة، لكني اتعجل الاجابة عليهم بالقول : سلوكي الخاطئ لا يعني اني لا أعرف الصواب، وقد يقرأ المقال ويعمل بنصائحي من هو أقوى ارادة مني، عندها سأنال الاجر ان شاء الله .
مقالات اخرى للكاتب