لم يكن الإعلام الرسمي العراقي خلال أكثر من نصف قرن سوى البوق الصارخ والمعبر عن إرادة الحاكم المستبد بأمره، أياً كان ذلك الحاكم وأياً كانت الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها وبغض النظر عن مدى استجابتها لمصالح الشعب أو ضد تلك المصالح والإرادة. كان هذا في زمن صدام حسين، وكذلك في زمن بول بريمر, ومن بعده في فترة حكم أياد علاوي ومن ثم إبراهيم الجعفري، ثم كانت الطامة الكبرى في زمن نوري المالكي، إذ وضع المالكي على رأس الإعلام الرسمي من كان الشعب العراقي يسميهم بالإمعات، أي يوافقون صاغرين على كل ما يقوله المستبد بأمره. وقد نشأت فجوة متسعة باستمرار بين الإعلام الرسمي وإرادة الشعب العراقي ومصالح كل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه واتجاهاته الفكرية المدنية والديمقراطية. ومن كان يفتح تلفزيون العراقية يصاب بخيبة أمل تتحول بسرعة إلى كراهية لتلك البرامج التي تمجد الحاكم وتنقل خطاباته وتصريحاته كافة ويقدم المراسلون ما يريده الحاكم الجاهل. ولا نبتعد كثيراً عن تلك المساهمة السيئة للإعلام الرسمي، إذاعة وتلفزة وجريدة، خلال فترة مظاهرات 2011 و2013 التي أصبح الإعلام فيها موجهاً لتشويه سمعة المتظاهرين، حتى أصبح أغلب مديري النقاشات واللقاءات مع المسؤولين بوقاً بشعاً ومملاً للمالكي وسياساته الطائفية وإجراءاته القمعية ودعاياته التي سعت إلى تشويه سمعة المتظاهرين وكأنهم كانوا جميعاً أعضاء في حزب البعث، وهي فرية كبرى، حتى كتبت مرة أقول لهم "افتروا ثم افتروا ثم افتروا، لعل بعض افتراءاتكم تعلق بأذهان الناس" واتهمتم بمقال وبكل صراحة وشفافية أنهم يتحدثون بذهنية طائفية مقيتة.
وحين كان يوضع رئيس تحرير نزيه ومستقل لجريدة الصباح مثلاً، كان لا يبقى طويلاً، فإما أن يزاح من منصبه أو يُجبر على الاستقالة. وهكذا كان وما يزال حال شبكة الإعلام العراقية التي أرى ضرورة تغييرها جملة وتفصيلاً.
لقد عانى الإعلام المستقل والصحفيون العراقيون الكثير من المحن واستشهد الكثير منهم واعتقل آخرون وعذبوا بسبب نقلهم للأخبار والاحتجاجات والمظاهرات والتجاوز عليهم من حمايات المسؤولية. وقد استشهد مئات الصحفيين والإعلاميين والعاملين في الأعلام من عراقيين وعرب وأجانب خلال الفترة بين 2003 و2015. ويشار إلى إن فترة حكم المالكي كانت الأقسى في مصادرة الحريات العامة وحقوق الصحفيين والإعلاميين بالعراق وفي عدد القتل والمختطفين.
وبعد أن تسلم السيد العبادي رئاسة الوزراء بقي الإعلام أميناً للفترة السابقة ولم يتغير كثيراً، في حين شارك الإعلام المستقل بدور مهم في الدفع باتجاه الإصلاح والتغيير، والذي اقترن أخيراً بالمظاهرات الكبيرة لأوساط واسعة من الشعب العراقي التي تطالب بالتغيير والإصلاح الجذري والتي تجلت في نشر هذه الصحف لأخبار تلك المظاهرات والتجاوزات التي وقعت عليها. وقد أجبر هذا الوضع الجديد وتأييد المرجعية الدينية الشيعية لمطالب الشعب إجراء تغيير ملموس في الجريدة الرسمية وفي بعض فقرات البرنامج التلفزيوني. ولكن يبقى السؤال المهم الذي يواجهنا: ما هو دور الإعلام في هذه المرحلة المعقدة والصعبة من تاريخ العراق السياسي؟ وهل من هم على رأسه يلبون حاجة التغيير؟
يبدو لي، أن الإعلام المستقل عن الدولة وعن الأحزاب الحاكمة وعن قوى الإسلام السياسي، يلعب دوراً مهما في تبني المظاهرات الشعبية وإبراز شعاراتها ومطالبها الملحة والعاجلة، رغم المصاعب الكثيرة التي تواجه الإعلاميين المستقلين. وكان لحركة الجماهير والإعلام المستقل الدور المميز في استجابة رئيس الوزراء لتلك المطالب. ولكن الأمر اللافت للانتباه إن الإعلام الرسمي العراقي، وخاصة تلفزيون العراقية، الذي خدم نوري المالكي وعمل على تمجيده وتحويله إلى مستبد، ما يزال يمارس ذات اللعبة مع العبادي، وهو أمر مرفوض وليس في صالح العبادي ذاته.
إن الإعلام الرسمي يسعى إلى خلق مستبد جديد بالعراق، والرجل حتى الآن لم ينتبه إلى ما يمارسه الإعلام في نشر صورته في كل الأخبار التي تنقل عن ساحة المعارك أو الإجراءات التصحيحية وكأنها كلها من فعل العبادي وليس الشعب العراقي الذي ينادى ويدعو إلى ذلك. يجب تطهير أجهزة الإعلام الرسمي، فهم ضد التغيير.
العراق بحاجة إلى إعلام رسمي مستقل وحيادي ويوضع تحت تصرف المجتمع وقواه المدنية لتعطي رأيها المستقل بالأحداث الجارية وينقل الوقائع ويتبنى طموحات الشعب وأهدافه ومصالحه ولا يكون بوقاً للحكومة أو لأحزاب بعينها. إن إعلام الدولة يعيش على خزينة الدولة التي هي أموال الشعب العراقي، وبالتالي عليه أن يخدم الشعب العراقي، كما هو واجب الحكومة وليس على الشعب أن يخدم الإعلام الرسمي والحكومة. ويفترض أن يدافع عن الدولة المدنية الديمقراطية وعن المجتمع المدني وعن حقوق الإنسان وحقوق الإعلاميين كافة.
مقالات اخرى للكاتب