ما زال يظهر المزيد من تقنيات الطب العدلي ومنها أجهزة التصوير المقطعي (CT scanners) التي تتيح للأطباء اجراء تشريح افتراضي لسبر خفايا الجسم البشري بحثا عن أدلة جنائية لا يكشفها التشريح التقليدي. ويدرس الباحثون إمكانية الاعتماد على البكتيريا التي تعلو الجثث لتحديد ساعة الوفاة بدقة أكبر. بل يدرسون إمكانية تحديد هوية الجناة من خلال البصمة الجرثومية التي يخلفها المجرمون وراءهم على مسرح الجريمة، دون الاعتماد على عينات الحمض النووي فقط. فلتقنيات الطب العدلي تاريخ طويل، فمنذ عام (1910) أصبح (توماس جينينغس) اول أميركي يدان بجريمة قتل بناء على بصمات الاصابع، وكان هذا الرجل قد اتهم باطلاق النار على رجل يدعى (كلارنس هيلر) اثناء عملية سطو فاشلة، ترك الجاني بصماته على حافة نافذة كانت قد صبغت حديثا، حيث أدين بناءً على شهادة اربعة خبراء ببصمات الأصابع وحكم عليه بالإعدام. وتحججت محكمة التمييز برد طعنه على الحكم بسرد تاريخي عن الاستناد لبصمات الاصابع لتحديد شخصية الجناة، (منذ استخدام الفراعنة لبصمة الابهام كتوقيع معتمد)، كما اوردت المحكمة عرضا للنجاح الذي لاقته تلك التقنية في انكلترا اذ استخدمت في آلاف القضايا بنجاح منذ عام (1891). وهكذا تم تأييد الحكم الابتدائي واعدم الرجل شنقا. اذ اعتبرت المحكمة ان تلك الأدلة تخرج عن إمكانية معرفة الشخص العادي وبالتالي يجب الاستناد الى خبراء بهذا المجال. بيد أن ما حدث بعدئذٍ أن ادلة نهضت تدلل ان تلك الخبرات تقوم على طرق وتفسيرات تميل الى التحليل الذاتي اكثر من ميلها الى العلم. فعلى سبيل المثال ان محاميا من ولاية اوريغون يدعى (براندون ميفيلد) كان قد اعتقله مكتب التحقيقات الفدرالي حين كان في مكتبه في شهر أيار عام 2004، وكان احد المحققين يتلفظ بكلمات نابية أثناء اعتقاله، كما لم يشرحوا له سبب اعتقاله، وقد اضطر ان يقرأ مذكرة الاعتقال ويداه مقيدتان خلف ظهره، وقد ظهرت بصماته في نتائج بحث بنظام تحديد بصمات الاصابع، فقال خبيران ان تلك البصمات تطابق بصمات عثر عليها على كيس بلاستيكي يحوي مواد متفجرة استعملت في تفجيرات مدريد التي اودت بحياة (191) شخصا. الا ان السلطات الاسبانية اخبرت السلطات الأميركية بعد اسبوعين من اعتقال ذلك المحامي انها عثرت على تطابق مع بصمات رجل جزائري هارب ويعد من ابرز مدبري تلك الهجمات.
لذلك اصبحت مصداقية طبعات الاصابع كقرائن موضع شك. خاصة ان البصمات المتروكة في مسرح الجريمة يشوبها التشوه غالبا. فأمر مطابقتها يقوم على رأي الخبراء الذي يظل ذاتيا مهما بلغت خبرتهم. وقد بينت دراسة ان خبراء البصمات لا تتطابق آراؤهم بشأن البصمة نفسها أحيانا.
فالقاسم المشترك ان كل تلك الخبرات تميل الى التحليل الذاتي اكثر من ميلها الى العلم، فيقر مكتب التحقيقات الفدرالي (على سبيل المثال) ان خبراءه ارتكبوا أخطاء في أكثر من 90% من مقارنات الشعر المعروضة عليهم.
سأعرض لكم في العدد القادم مجموعة من القضايا التي تم فيها زج أبرياء في غياهب السجون استنادا لادلة جنائية تستند الى تحليل طبعات الاصابع، وآثار العض، وآثار الدماء، وأنسجة الأقمشة، وخط اليد، وآثار الطلقات، ووسائل أخرى تعد الى اليوم من دعامات الطب العدلي، والأدلة الجنائية، الا انه ثبت عدم وجود طريقة علمية يمكن الاعتماد عليها الى درجة اليقين لإثبات الصلة بين تلك الأدلة وشخص ما... اللهم إلا طريقة وحيدة وهي (تحليل الحمض النووي).
(المقال بقلم (فيرونيك غرينوود) – منشور باللغة الانكليزية في مجلة (NATIONAL GEOGRAPHIC) – المجلد 18 – العدد 70 – شهر تموز 2016 – للبحث تتمة
مقالات اخرى للكاتب