منذ بدء الخليقة خلق الله العراق هكذا، مجموعة من التناقضات. فأرضه مليئة بالخيرات وأهله جياع. صراع دائم بين الخير والشر على مر العصور وأبناؤه منقسمون بين هذا وذاك. أطماع الاقوام من كل حدب وصوب تتنافس على قضمة من لحمه اللذيذ فينهشون جسده مع كل فرصة مواتية بلا هوادة.
شعب يتنفس عشقا لهذا الوطن مع انه يموت فيه فقيرا منكسرا بعد سنين من الصبر الجميل او يقضي حسرة في مهجره وغربته باكيا على ماض سليل. لم أجد شعبا أقوى وأعمق حبا وتمسكا بولائه لوطن ما مثل من ولد وتربى في العراق حتى وان لم يكن عربيا او عراقي الجد والاصل. وكانه سحر يمس الوليد ساعة مجيئه لهذه الدنيا في اي بقعة من العراق فيدمغ قلبه بالانتماء له والى الابد.
كان وما زال نهج الكثير من العراقيين ولسان حالهم ان... بلادي وان جارت علي عزيزة... واهلي وان شحوا علي كرام.. ومهما حصل ويحصل من دمار وحروب وفزع وفقر واضطهاد يبقى البلد عزيزا ويبقى الاتهام موجها الى الاشخاص المعدودين الذين يتسببون بكل هذا الالم الذي يزول لحظة تنفسنا الصعداء بقولنا (الله كريم.. ما تضيگ الا تفرج).
تتقبل باقي الشعوب تغيير سكنها او وطنها ببساطة شديدة لا تتعدى فرصة عمل في ارض اخرى الا العراقي لو انه حكم ارضا اخرى لبقي لسان حاله انه.. لو كان لي الخيرة في امري لما تركت العراق ولكن آخ!
رغم هذا الحب والانتماء الروحي يظهر تناقض غريب بادراج العراق في قائمة الفساد والسرقة والرشوة والقتل والظلم ليكون من أسوأ البلدان معيشيا. لا استطيع ان أدافع عن أهله وهم جعلوه أسفل سافلين. ماذا سيقول العراقي لربه في يوم القيامة لماذا فعل كل تلك الافعال البشعة؟ هل كنت مستضعفا في الارض فاجبرت على ذلك؟ طيب، الم تكن ارض الله واسعة لتهاجروا فيها؟ ام هل كنت ظالما فتستحق العذاب الاليم؟ إن كنت ممن لا يفعل الفساد والسرقة والظلم فارفضهم اما بيدك او بلسانك فان لم تستطع فبقلبك واهجر من يصيب الناس بالاذى.
يقول الامام علي ابن ابي طالب عليه السلام (ليس بلد احق بك من بلد، خير البلدان ما حملك). نعم، حب الوطن من الايمان ولكن أي وطن؟ الذي ولدنا فيه وسلبت فيه انسانيتنا ام الذي حفظ لنا كرامتنا كبشر نمارس فيه حقوقنا الفكرية والاجتماعية والدينية.
تحضرني قصيدة السياب رحمه الله (انشودة المطر) بكل ما فيها من تناقضات صورية وشعرية من كابة وامل وظلام وضياء وكانها تصف حال العراق عندما قال وفي العراق جوع... ما مر عام والعراق ليس فيه جوع!! ولكنه يامل ان الغد الفتي واهب الحياة سيكون مبسما متوردا.
في كل قطرةٍ من المطرْ
حمراءُ أو صفراء من أجنَّة الزَّهَر.
وكلّ دمعةٍ من الجياع والعراةْ
وكلّ قطرةٍ تُراق من دم العبيدْ
فهي ابتسامٌ في انتظارِ مبسم جديدْ
أو حُلمةٌ تورَّدتْ على فمِ الوليدْ
في عالم الغد الفتيّ، واهب الحياة
مطر... مطر... مطر
ما الحل؟ هل نغير البلد فنحيا كالبشر ولكن بغصة في الحلق وحسرة في الروح على العراق ام نغير الشعب ونأتي بأناس لا يقتلون بعضهم ولا يسرقون اموال البسطاء من الناس ولا ينتهكون حقوق الاخرين. في كل حال من الاحوال، لدي امل، هو ضعيف ولكنه موجود، في يوم ما سيعشب العراق ان شاء الله.
مقالات اخرى للكاتب