ستيف له قصة غريبة، تكمن إثارتها عندما قرر البحث عن والده المسلم "عبدالفتاح الجندلي" وأمه الأمريكية الشقراء ذات الأصول المسيحية "جونا". قصة لو أنها لم تُذكر في مذكراته التي نشرها والت آيزكسون، والتي حققت أعلى الكتب مبيعاً بالولايات، لظن القارئ أنها مجرد فلم دراماتيكي ونسج من الخيال!
تبدأ الحكاية عندما خرج ستيف للدنيا، وقرر والداه "عبدالفتاح وزوجه" عرض طفلهما الوليد للتبني؛ لأن الزواج لم يكن مرحَّباً به؛ نظراً لأن عبدالفتاح من أصول سورية، وكانت الجالية السورية تمر بموجة كراهية في أمريكا، وذلك في الخمسينيات الميلادية. تم تبني هذا الطفل الصغير من عائلة أمريكية، وأخذ اسمها "ستيف جوبز". ترعرع الطفل حتى صلب عوده، وأسس شركة أبل، وأصبح مليونيراً، ولم يتجاوز الـ٢٥ من عمره! بعد ذلك بسنوات ماتت أمه التي تبنته، واسمها كليرا، واشتعل الحنين في قلبه ليبحث عن أمه وأبيه الحقيقيَّيْن. كان يلاحقه الشعور منذ زمن، لكنه احتراماً لأمه التي تبنته لم يحب أن يجرح شعورها بعملية البحث.
كلَّف باحثاً جنائياً خاصاً ليتولى المهمة ولم يفلح، كلف آخر وثاني، وكانت النتيجة واحدة: طريق مسدود.
فجأة، لاحت في ذهن ستيف فكرة تعجَّب كيف غابت عنه طويلاً: في شهادة الميلاد اسم للدكتور الذي قام بإجراء عملية الولادة، وكان هو آخر أمل يبدو في الأفق. ذهب ستيف مسرعاً للدكتور بعد رحلة بحث عن عنوانه، فإذا برجل طاعن في السن، وسأله عن الملف الخاص بأمه، الذي يحتوي على معلوماتها كاملة، لكن إجابة الدكتور حلت كالصاعقة على أذن ستيف: أنا آسف.. لقد اشتعل أرشيف العيادة، وفقدنا كل الملفات فيه! أصابه موجة من الأسى؛ حيث كان هذا هو آخر بصيص متاح له من الأمل ليصل إلى أمه الحقيقية ووالده.
بعدها بأشهر اكتشف ستيف جوبز – ويا للغرابة- أن الدكتور كان يكذب! الذي حصل أن ستيف وصلته رسالة على بريده من زوجة ذلك الدكتور مكتوباً عليها: "تُسلَّم لستيف جوبز بعد موتي!!". فتح ستيف الرسالة، وكانت المفاجأة: اعتذر الدكتور عما فعل، وأخبره بأن أم ستيف جوبز امرأة شقراء من ولاية ويسكونسون، واسمها جونا، ولم تُرِد هي أن يعلم أحد بالاسم الحقيقي لوالدَيْ هذا الطفل؛ ولذلك حفظ لها الدكتور الطلب حتى ذلك الوقت، وهذا مخالف للقانون، وهو السبب الذي جعله يضطر للكذب على ستيف في أول الأمر خوفاً من محاكمته قضائياً.
كلّف ستيف بعدها مباشرة باحثاً خاصاً؛ ليقوم بمهمة البحث في ولاية ويسكونسون الأمريكية، وبعد فترة من البحث اكتشفوا أن أمه انتقلت لمدينة لوس أنجلوس. ويا للمصادفة؛ هي المدينة المجاورة لمدينته التي عاش فيها "سان فرانسيسكو". وصل الخبر أخيراً لها في منزلها، وزف لها الخبر، ولم تكن تعلم بأن الرجل الشهير والثري ستيف جوبز هو ابنها الذي خرج من رحمها! كان وقع الخبر عليها قوياً، وسافر ستيف للقائها في لوس أنجلوس، حيث دخلت في نوبة من البكاء والدموع، بقلب الأم الذي يتحسر على ماضٍ مؤلم. فوجئ ستيف جوبز حينما أخبرته أمه بأن له أختاً اسمها "منى"، وهي كاتبة شهيرة في نيويورك! اتصلت أمه بمنى مباشرة، وقالت: أعتذر لك.. ولكنَّ لك أخاً أخفيناه عنك كل هذه السنين، ونحن قادمان حالاً لنيويورك للقائك، وهو شخصية مشهورة جداً!
طارا مباشرة للمدينة التي لا تنام، وكان لقاء مليئاً بالدموع والمواقف التي لا توصف، بعد ثلاثين سنة تعرف – فجأة - أن واحداً من أثرى وأشهر تجار أمريكا هو في الحقيقة أخوك! أحب ستيف أخته الجديدة "منى" لدرجة أنه في آخر أيامه وهو يصارع السرطان كانت ضمن ثلاثة فقط مسموح لهم بالجلوس على سرير ستيف نفسه.
إن كل ما سبق من إثارة وغرابة لا يعادل شيئاً من قصته مع والده المسلم عبدالفتاح! كان ستيف غاضباً على والده الذي تجاهله، وهو يحمل درجة الدكتوراه في العلوم السياسية، وزاد غضبه حينما علم أنه تجاهل أخته "منى" سنين طويلة، ثم عاد لهما مؤخراً. قرر ستيف جوبز ألا يلاقي أباه، بعد أن علم بكل ما فعل بأمه وأخته.
كان عبدالفتاح وقتها يدير مطعماً، وله علاقة متقطعة مع ابنته منى، وكانت تزوره بين فينة وأخرى. زارته هذه المرة، ولكن ستيف طلب منها ألا تخبره بقصته معها، وأن تكتم خبر أن ستيف جوبز هو ابن عبدالفتاح، وعندما دخلت المطعم رحب بها قائلاً: أهلاً بك يا منى.
هذا المطعم صغير نوعاً ما. كنت أتمنى لو زرتني في مطعمي السابق، الذي كان في سان فرانسيسكو؛ حيث كان مطعماً كبيراً، وكان يأتيني مشاهير وادي السيليكون! ثم أضاف والدها عبدالفتاح الخبر الذي جعلها تقف من الدهشة: كان يأتيني ستيف جوبز في المطعم، وكان يكرمني "ببخشيش" عالٍ في نهاية كل زيارة! ابتلعت منى ريقها وهي تصيح في داخلها: ستيف هو ابنك!!
ولكنها تذكرت طلب أخيها ألا تخبر عبدالفتاح بالخبر؛ فصمتت والعرق يتصبب منها من سخونة الموقف.
خرجت من المطعم، وأخبرت ستيف بالخبر، فوقع في موجة من الذهول هو الآخر، وهو يستعيد شريط الذكريات سريعاً حينما قال: نعم.. نعم.. أتذكر جيداً تلك السحنة السورية، وأتذكر كذلك أني صافحته أكثر من مرة!
لم يعلم عبدالفتاح بالخبر، وبعدها بسنوات كان يتصفح موقعاً إلكترونياً؛ حيث بدأ ينتشر في الإنترنت قصة والد ستيف جوبز "المسلم"، واتصل مباشرة بابنته منى مستفسراً، عندها لم تجد منى بُدًّا من إخباره بالحقيقة التي لم يكد يصدقها: نعم يا أبي.. ستيف جوبز هو ابنك الذي تخليت عنه قبل ٤٠ سنة!
بعدها.. لم يحب عبدالفتاح أن يفاتح ستيف بالأمر، خوفاً أن يظن أنه يطمع في شيء من ثروته، ولم يستطع ستيف هو الآخر تجاوز الماضي وبدء صفحة جديدة. مات ستيف جوبز ولم يلتقِ الاثنان!
ماتت أمه جوانا عام ٢٠١٠، ولحقها ستيف في العام الذي يليه، وانتقل عبدالفتاح لعمله الجديد في لاس فيقاس.
زبدة هذه الحكاية المثيرة: اسألِ الله دوماً الخيرة في أمرك؛ فقد يكون قدرك الذي تهرب منه اليوم وتكافحه بكل قوة هو مصدر سعادتك غداً، وتذكر: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً).