كان شاوشيسكو، ديكتاتور رومانيا، على حقّ، فقبل لحظات من إعدامه، طلب من قتلته كلمة أخيرة.
ونحن نعرف ان الكلام الأخير للمحكوم بالإعدام يكون ملحمياً فيه بلاغة توجز كلّ ما أراد أن يقوله في عمره،
غير ان شاوشيسكو ترك لهم كلمة تبدو ساخرة لكنها عميقة،
قال لهم: انظروا إلى المباني التي شيدتها خلال سنيّ حكمي، أتحداكم لعشرين سنة قادمة أن تصبغوها!
مرت أمس الذكرى العشرون لكلمة شاوشيسكو الأخيرة ولم تُصبغ بنايات رومانيا التي تعدّ اليوم بعد عقدين من "الحرية" أكثر بلدان أوربا فساداً بحسب هيئة الشفافية الدولية، البطالة فيها تصل إلى عشرة بالمائة، وفيها أزمة تشكيل حكومة وصراع مجنون بين الساسة، وفي استطلاع لمكتب البحوث الإجتماعية الرومانية ان أكثر من نصف السكان يرون أن عهد شاوشيسكو أفضل بكثير مما تلاه.
هذه مأساة تتكرر حتى باتت أشبه بالسنّة الكونية: ان الديكتاتور يترك سمّه في الهواء الذي لم يعد يتنفسه،
ويضع في عمق الأرض التي يدفن فيها بذرة خراب تنمو على مرّ الأيام،
المأساة ان من يأتي بعده ربما لا يختلف كثيراً عنه بل هو ـ في أعماق لا وعيه ـ معجب بشخص الديكتاتور،
ضحيته ومحبّه في آن واحد، ويظلّ ينتظر الفرصة ليكون هو،
لكن بصورة كاريكوتورية لافتقاده إلى الإمكانات والكاريزما والقسوة التي هي علامة فارقة لكلّ طاغية.
يضحك شاوشيسكو في قبره لأن كلمته لم تزل صادقة، ضحكة انتصاره على أعدائه موجعة لكلّ من يؤمن بحتمية انتصار الحرية، وهنا أيضاً في مضاربنا السعيدة نسمع يومياً الضحكة الشهيرة لطاغيتنا القديم حين تهتزّ أكتافه طرباً، ليس على المباني التي لم تصبغْ، ولا على الشوارع غير المكسوّة والكهرباء المقطوعة، على الفساد الذي جعل العراق في رأس قائمة الدول الفاسدة، على جلسات الساسة المنقولة عبر الأثير إذا حالفنا الحظ واكتمل النصاب.
في كلّ دويّ انفجار نسمع ضحكة صدام علينا، وعند كلّ تصريح لسياسيّ عراقيّ يحنّ إلى الأيام الخوالي، في تهديدات الساسة وتخوينهم لبعضهم، في العنتريات الفارغة، عندما تتعطل الحياة فجأة وتتحول بغداد إلى ثكنة كبيرة، حين يطلب المواطن من السياسيّ أن يوفّر له حياةً بأدنى شروط العيش فلا يجد إلا أذناً من طين وأخرى من عجين، حين ننام ونصحو ونحن نستنشق السمّ الذي تركه لنا صدام، وحين نرى سياسيين كباراً يسقون كلّ يوم نبتة الخراب التي زرعها صدام فأصبحت وارفة الظلال بفضلهم، حينها أضع يدي على قلبي وأخشى أن يأتي يوم نحتفل فيه بالذكرى العشرين لكلمة صدام الأخيرة
قائلين: أرجوكم ... اصبغوها!