توافد الشباب والكهول والشيوخ يوم الجمعة الى ساحة التظاهر. كانوا يغذّون السير كأنهم الى نُصُبٍ يوفضون، أو كأنَّ هاتفاً هتف بهم : يا ايها الذين آمنوا اذا نودي للتظاهر من يوم الجمعة فاسعوا الى إزاحة الفاسدين لعلكم ترحمون، فان لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله....انما تجزون ما كنتم عنه تسكتون.
كانوا يعلمون ان هذا ليس قرآناً نزل من عند الله، فلا يوجد غبي يتوهّم هذا، ولم يبق جبان يتهمهم بتحريف القرآن عن طريق محاكاة سورة الجمعة، فقد دخلت الجرذان التي تعيش في دكان الدين الى جحورها مذ خرجت جموع المتدينين المسروقين تطالب بحقوقها، وكسدت بضاعة المزيفين المتربعين على عرش الدين في سوق الاسلام لكي يحرّفوا رسالة القران التي لخصتها آية واحدة في سورة الحديد : "ليقوم الناس بالقسط"
...لكن التجار الذين اخذوا قشور الدين وتركوا اللباب دعوا الناس الى صلاة الجمعة ونسوا الهدف الاكبر للدين وهو :"القيام بالقسط"، فمارسوا ابشع انواع الظلم عندما سرقوا قوت الجياع، وسخّروا منابر الجمعة وباقي الايام للالتفاف على اهداف الجمعة التي احياها محمد الصدر
محمد الصدر فهم حقيقة الجمعة فأخرج الجواهر من الاصداف وصنع منها منبراً لا متجرا
محمد الصدر جعل من خطاب الجمعة زاداً للفقراء لا متاعاً للزعماء، وارتقى من تلك المنابر نحو الشهادة ولم يتخذها سلّما للقيادة
جعلها مفتاحاٍ للجنان لا طريقا للبرلمان...
لقد كان بحق ممثلاً لخط محمد باقر الصدر.... لم يطلب على جهاده مكسباً أو أجر... كان صادقاً مع نفسه و مع المصلين خلفه، ولم يخدع ضميره ولا السائرين وراءه، ما أحوجنا اليه اليوم!
****
بعدما تجمعت الحشود بدأت بالهتافات، وتنوعت الشعارات...كانت هناك امرأة تقف جانباً تتجنّب مزاحمة الرجال.. تحمل بيدها صورة ثبّتتها على عصا ورفعتها عاليا..
لم تكن صورة زعيم فاسد تحاول اسقاطه، ولا صورة فاسد آخر تحاول ان تنصبه محله،
فهي لا تملك فضائية تبحث عن دور في المظاهرات،
ولا ملايين تشتري بها الادوات.
الصورة لمراهق بريء لابدّ انه ابنها،
لكن ما قصته وما قصتها ؟ لم يكن أحد يعرفه، ولم يكن أحد يعرفها...
****
في زاوية اخرى وقف رجل وقور على اعتاب الخمسين من العمر يلبس رداءً اسوداً سرعان ما ادرك الناس انه رجل قانون.
توجهوا اليه طالبين ان يكون معهم، وفي الوسط لا في الزاوية، فعندما تنطلق المظاهرات تطالب بالحقوق فمن أولى بتصدّرها من خرّيح كلية الحقوق؟
ابتسم رجل القانون وبقي ساكتاً فادركت الجماهير -التي يتهمونها بالغفلة والغوغاء- ان الرجل يريد ان يقول شيئا على الهواء.
سكتوا ليتكلم، وأفرجوا له ليتقدّم.
وسرعان ما ادركوا ان الرجل ليس من القضاة الذين يبيعون ضمائرهم بالمال، بل من الاتقياء الذين يعيشون على الرزق الحلال.
لم يتلوث بفساد القضاء الذي دعت المرجعية الى تطهيره، ولم يبع ضميره لسياسي يستفيد من تزويره...
حملوه على الاكتاف بعد ان تأكدوا انه انسان، وأنه لا يريد ان يصعد على اكتافهم الى البرلمان.
تكلم الرجل بكلام واضح :
انا معكم في احقاق الحقوق، لكني ارى ان دوري اهم من اطلاق الشعارات او ترديد الهتافات..
انا مهمتي هي مهمة الانبياء والرسل والتي من اجلها انزل الله الكتاب والميزان: ليقوم الناس بالقسط،
انا اريد ان تنالوا حقوقكم التي سرقها ادعياء الدين باسم الدين، وادعياء الديمقراطية باسم الديمقراطية، وسرقها ادعياء الحرية باسم الحرية، وأدعياء حقوق العمال باسم حقوق العمال، وادعياء العروبة وتحرير فلسطين باسم العروبة وتحرير فلسطين..
لكني ارى ان المظاهرات وحدها لا تكفي...هي وسيلة ضغط جيدة وفعالة لكنها قد تضيع اذا لم يصاحبها عمل ضروري .
صاح الناس بصوت واحد:
- ما هو؟
- تشكيل محكمة شعبية لمحاكمة الفاسدين.
- كيف؟
- تعالوا معي الى قاعة البلدية.
*****
سرعان ما ادركت الجماهير صدق الرجل الذي لم يلبس الزيتوني يوماً، ولم يكن سمسارا لعدي في فترة ما، ولم يفتح فضائية ولم يترك شعبه ليسكن في دبي او عمان او القاهرة او اليونان، ولم يسكن القصور في الجادرية ، ولم ترافقه مواكب السيارات الحكومية، ولم يتقاسم المال الحرام مع عصابات المحاصصة، فسارت معه الى المجلس البلدي في مبنى المحافظة .
****
اطل المحافظ من عليائه على الحشود التي اجتمعت خارج " سور المحافظة العظيم"، وامتدت نحو الشبابيك اعناق اعضاء مجلس المحافظة الذي يعقد اجتماعاً طارئاً لا ليحل مشاكل الناس، بل ليحلّ مشكلته مع الناس.
نظروا من خلال الشبابيك التي تفصل بين هواء خارجها بدرجة خمسين سخّنته شمس لا تنطفئ، وهواء داخلها بدرجة عشرين برّدته كهرباء لا تنقطع...
دبَّ الرعب في قلوب المنتَخبين المترفين، خوفاً من قبضات الناخبين المنسيين.
نظر بعضهم بعضاً بعيونٍ تستغيث برأي سديد او تدبير جديد.
قال كبيرهم: ارى ان نتسلل من الباب الخلفي، فالحشود لا تطوّق المبنى، والباب السري لازال مجهولا.
اجابه احدهم: حسناً... خرجنا...الى اين نذهب؟ وبعد ذلك ماذا سنفعل؟
قال ثالث: لنفلت الان، وبعد ذلك لكل حادث حديث.
وانبرى رابع لم يتكرّش بعد فقال: لماذا لا نتحدث معهم لنرى ماذا يريدون؟
اعترض عليه الجميع: ماذا ؟ تتحدث مع الناس؟ تلتقي بهم؟ يا رجل! نحن لم نتحدث معهم منذ اليوم التالي لفوزنا بالانتخابات وكانوا يهتفون بحياتنا، فهل تريد ان ننزل اليوم الى بحرهم المتلاطم وهم يريدون سحقنا بالاقدام؟ اذهب انت وتحدث اليهم ان كنت رجلاً
قرر الرجل الذي لم يتكرّش بعد ان يقوم بمخاطرة...قرر ان يتحدث اليهم.
غادر مقعده الوثير في الغرفة الباردة، وتوجه الى السلم لينزل الى الساحة الساخنة.
بمجرد ان دخل الساحة خارج مبنى المحافظة لفحته حرارة هواء سخّنته الشمس لساعات، كما لفحته شعلة قلب الأم تحمل صورة ابنها المحروم من ضوء الشمس لسنوات.
للقصة بقية...
مقالات اخرى للكاتب