صدر كتاب جديد بعنوان "هل يمكن تجديد الحزب الشيوعي السوداني؟ بمناسبة "الذكرى السبعون لتأسيس الحزب الشيوعي السوداني (1946-2016)" ، تحرير الدكتور صديق الزيلعي
، شارك في كتابته بمقالات مستقلة 26 كاتباً شيوعياً وغير شيوعي أو مستقل، تناول بعضها تاريخ الحزب، كما في البحث المهم للسيد الدكتور محمد محمود، وبعضها الآخر حول الاقتصاد والصيرفة الإسلامية في السودان، كما في مقالة السيد الهادي الهباني، أو مناقشة سياسات الحزب في الماضي وعن فترات النضال المختلفة، كما في مقالة التجاني الطيب، والدعوة إلى تجديد الحزب وبناء حزب ديمقراطي جديد، كما في بحث الدكتور فاروق محمد إبراهيم، أو تطرق بعضهم إلى مناقشة ونقد بعض المسائل المبدئية التي يلتزم بها الحزب الشيوعي السوداني، ومنها قاعدة المركزية الديمقراطية، كما في مقال السيد صديق الزيلعي، ومقالات أخرى تناولت ذكريات شخصية مع بعض القادة الشيوعيين والحياة السياسية السودانية وحياة الطلبة بالخارج، كما في مقال الدكتور حامد فضل الله. كانت لي لقاءات مع ممثلي الأحزاب الشيوعية والعمالية في براغ حين كنت عضواً في هيئة ومجلس تحرير مجلة قضايا السلم والاشتراكية (مجلة الوقت)، ومنهم ممثل الحزب الشيوعي السوداني د. محمد مراد الحاج، كما تسنى لي اللقاء مع الرفيق محمد إبراهيم نقد في موسكو، أطلعت فيها على عمل ونشاط الحزب الشيوعي السوداني وإنجازاته وإخفاقات، ودوره في عملية التنوير الفكري والاجتماعي والضال السياسي. لقد تكرم الصديق الدكتور حامد فضل الله بإعارتي الكتاب لمطالعته. فحفزني على الكتابة مرة أخرى عن اليسار العالمي وبالدول العربية وعن الأحزاب الشيوعية بالدول العربية، ومنها الحزب الشيوعي السوداني، فشكراً له.
تميز تاريخ الحزب الشيوعي السوداني على مدى الأعوام السبعين المنصرمة بالروح النضالية العالية والاستعداد للعمل والتضحية بالغالي والنفيس لصالح استقلال السودان وحرية شعبه وازدهار اقتصاده وتقدم مجتمعه على أسس ديمقراطية وعلمانية ملتزماً من حيث الواقع بالشعار العام والسليم "الدين لله والوطن للجميع".
قبل تأسيس الحزب الشيوعي السوداني ظهرت بذور أولية للفكر الماركسي في العشرينات من القرن العشرين وتبلورت في نواتات وحلقات ماركسية منذ النصف الثاني من العقد الرابع من القرن الماضي، ولكنها اجتمعت لتشكل الحركة السودانية للتحر الوطني (حستو)، في العام 1946 والتي أصبحت فيما بعد الحزب الشيوعي السوداني. ومنذ ذلك الحين لم يتوقف نضال الشيوعيات والشيوعيين السودانيين، ولم ينقطع عن تقديم التضحيات الجسام، سواء باستشهاد مجموعة غير قليلة من قادته الشجعان والكثير من أعضاء الحزب وكوادره، أم بزجهم في السجون وقضاء سنوات كثيرة فيه. لست ناوياً في هذا المقال أن أتحدث عن تاريخ الحزب الشيوعي السوداني ولا عن البطولات التي اجترحها السودانيون من شيوعيين وديمقراطيين وتقدميين في النضال من أجل الشعب السوداني واستقلاله وحريته تقدمه، إذ إن هذه المهمة الكبيرة هي من اختصاص الرفاق والرفيقات في السودان ذاته أو خارجه، بل أحاول هنا أن أتناول المسألة المهمة التي طرحها محرر الكتاب واشارك اجتهاداً في الإجابة عن السؤال المهم والكبير الذي وضعه الكاتب عنواناً للكتاب في الذكرى السبعينية لتأسيس الحزب الشيوعي السوداني، "هل يمكن تجديد الحزب الشيوعي السوداني؟".
منذ أوائل العقد الأخير من القرن العشرين بدأت أتناول موضوع الأحزاب الشيوعية بالدول العربية وأحاول البحث في مدى إمكانية تجديد هذه الأحزاب التي ارتبطت عضواً بالأممية الشيوعية، الأممية الثالثة، والتي اعتمدت الماركسية-اللينينية كمنهج ودليل عمل ونضال فكري وسياسي. ونشرت بهذا الصدد أكثر دراسة موسعة نشرت في جريدة الطريق اللبنانية في أوائل التسعينات من القرن الماضي، كما نشرت مقالات أخرى ولقاءات صحفيه بشأن أوضاع الأحزاب الشيوعية والعمالية بالدول العربية، ثم خصصت مقالاً آخر عن الحزب الشيوعي العراقي في العام 2006 بعد أن توجه لعقد مؤتمره الثامن في أيار/مايس من العام 2007. إن متابعتي لنشاط ونضال الحزب الشيوعي السوداني والأسس الفكرية والتنظيمية التي يعتمدها في عمله بين الجماهير وفي داخل الحزب ومع الأحزاب والقوى الأخرى تسمح لي في أن أبدي بعض الملاحظات في هذا الصدد، والتي تنطبق تماماً عبى بقية الأحزاب الشيوعية في الدول العربية.
دأب بعض المفكرين والسياسيين العرب الإشارة الواضحة إلى إن الأحزاب الشيوعية قد انتهى أمر وجودها وستنتهي إن آجلاً أو عاجلاً. أختلف مع هذا الرأي تماماً وأؤكد إن الأحزاب الشيوعية بالدول العربية ستبقى قائمة ولن تحل أن تنتهي. ولكن إذا استمر وضعها على النحو الراهن، سوف لن يتسنى له أن تلعب دوراً مهماً وفاعلاً، بل ستبقى هامشية في دورها في الحياة السياسية بالدول العربية بخلاف ما كانت عليه في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، وبهذا فوجودها سوف لن يكون له الأثر الذي يسعى إليه الشيوعيون والشيوعيات على وفق المبادئ التي يحملونها والشعارات التي يسعون إلى تحقيقها، وبالتالي فهم أمام واحدة من أثنين إما أن يلعبوا دوراً مهماً وفاعلاً ومؤثراً أو أن يبقوا هامشيين ومعزولين عن حركة الجماهير الواسعة وضعيفي التأثير عليها وعلى الحياة السياسية. فأن اختاروا الطريق الأول فما عليهم إلا التغيير وليس التجديد، وإذا اختاروا النهج الثاني، فهذا يعني أنهم غير جادين في عملية التجديد والتغيير بأي حال أو إنها مجرد أحاديث استهلاكية شكلية. وعملية الاختيار ليست إرادية بحتة، بل هي ضرورة موضوعية فرضها التغيرات الهائلة الحاصلة على العالم كله والذي يستوجب التناغم والانسجام مع هذه العملية الموضوعية الجارية بالعالم.
من عمل في الحركة الشيوعية والعمالية العالمية بوعي ومسؤولية أدرك دون أدنى ريب الجمود العقائدي الذي سقطت فيه الحركة الشيوعية العالمية والأزمة التي عانت منها الأحزاب الشيوعية على صعيد بلدانها، وخاصة بالدول الاشتراكية والتي قادت إلى ما هي عليه الآن، حيث اختفت المنظومة الاشتراكية، وضعفت الأحزاب الشيوعية إلى حد الهزال وعدم التأثير في الأحداث. ويمكن أن نتابع ذلك في الأحزاب الشيوعية والعمالية في دول الاتحاد الأوروبي مثلا، ومنها على نحو خاص الأحزاب الشيوعية في فرنسا وإيطاليا واسبانيا والبرتغال وغيرها من الدول الأوروبية، التي كان لها نفوذ واسع في الأوساط الشعبية وفي النقابات وفي البرلمان، ولم يعد لها هذا النفوذ والتأثير والدور الفاعل. ومن هنا ستشمل ملاحظاتي جميع الأحزاب الشيوعية بالدول العربية وبهذا القدر أو ذاك بسبب تماثلها من حيث الفكر والممارسة السياسية، رغم وجود بعض التباين في تفاصيل أوضاع هذه البلدان، ولكنها كلها في الهم شرق.
إن من يسعى إلى التجديد الحقيقي والتغيير الفعلي عليه أن يبدأ بنقد الذات من حيث الفكر والسياسة والممارسة، سواء مع المجتمع، أم مع القوى والأحزاب الأخرى أم مع رفاق الحزب والجماهير المحيطة به، أو في علاقته مع الأحزاب الشيوعية والعمالية في الدول الاشتراكية وخاصة مع الحزب الشيوعي السوفييتي في حينها. إن مثل هذه الخطوة تستوجب الجرأة والإقدام من جهة، وستكون الضوء الذي ينير طريق المناضلين وتجنب الزلل المحتمل في العمل والنضال القادمين. إن نقد الماضي صعب جداً، لأن فيه الكثير من الحنين (نوستالجيا) للنضال البطولي وللشهداء الذين سقطوا وللمكاسب التي تحققت، ولكن فيها الإخفاقات التي تعرض لها الحزب والوطن. أرى بأن المادة الدسمة التي قدمها لنا الدكتور فاروق محمد إبراهيم تشكل معلماً مهماً لمن يريد تطوير الأحزاب الشيوعية بالدول العربية إلى أحزاب جماهيرية واعية لطبيعة المرحلة والمهمات المرحلية التي تقع على عاتقها، وهذا بخلاف المقال النقدي الشديد الذي قدمه عضو قيادة الحزب الشيوعي السوداني الطيب الذكر الرفيق التيجاني الطيب الموجه للمقالة القيمة للدكتور فاروق محمد إبراهيم، وهي نموذج يعبر عن الجمود العقائدي في فهم الماركسية والواقع وطبيعة المرحلة والمهمات التي يفترض ان ينهض بها حزب يتبنى شعارات الحداثة والتقدم. لهذا وجدتني متفقاً تماماً مع البروفيسور فاروق محمد إبراهيم ومختلفاً مع الرفيق التيجاني الطيب..
إن من عمل في صفوف الأحزاب الشيوعية في الدول العربية يعرف تماماً ثلاث مسائل جوهرية تتسبب في فقدان الكثير من الديمقراطية الداخلية الضرورية لكل حزب شيوعي، وأعني بها، قاعدة المركزية الديمقراطية، التي تخنق الديمقراطية بكل معنى الكلمة وتصل إلى موقف استبدادي يقول "نفذ ثم ناقش"، وليس "ناقش ثم نفذ"، التي أشار إليها بشكل واضح وصريح الدكتور صديق الزيلعي في مقالته المهمة عن أخطار العمل بالمركزية الديمقراطية في الحزب الشيوعي السوداني. ثم إن الأوضاع السرية في الحزب كانت تمنع من ممارسة الديمقراطية الداخلية، إضافة إلى القمع وغياب الحريات الديمقراطية بالبلدان كلها كانت تنعكس سلباً على حياة الحزب الداخلية. لقد اعتمد الحزب في بنيته الداخلية ونشاطه الداخلي وإزاء رفاقه قواعد صارمة منها "وحدة الإرادة والعمل" و"الطاعة الواعية" و"الضبط الحديدي" و"التنفيذ ثم الاستفسار والنقاش"، وتقود هذه المسألة إلى وضع نفسي معقد، إلى حالة من الازدواجية في شخصية المناضل، قَبِلَ الحزب بهذه الحقيقة أم رفض. وهذا يعني أن الحزب الشيوعي يفترض فيه أن يرفض ازدواجية الشخصية أو انفصامها أو التحدث بلسانين، وهذا يتطلب السماح بوجود منابر فكرية في الحزب، كما هو حال العديد من الأحزاب الشيوعية التي تحولت إلى أحزاب يسارية ديمقراطية لم تعرف المنابر سابقاً، ولكنها تمارسها اليوم وبنجاح. وهذا يتطلب التخلي عن مبدأ المركزية الديمقراطية و "الطاعة الواعية" وبقية القواعد الأخرى المخلة لفكر واستقلالية الإنسان والمقيدة لحرية الإنسان حقاً، والتحول نحو الديمقراطية بكل معنى الكلمة والتي تعني في كل الأحوال ممارسة مبدأ الأكثرية والأقلية، مع احتفاظ الأقلية برأيها والكتابة فيه دون أن يشوش ذلك على موقف الأكثرية في تنفيذ القرارات المتخذة بالأكثرية. لقد ابتدع لينين والحزب الشيوعي السوفييتي مصطلح "الديمقراطية البروليتارية"، والذي انتقدته بصواب وشدة الماركسية الكبيرة روزا لوكسمبورغ في كراسها الغني الذي كتبته عن الثورة الروسية في سجنها وقبل إعدامها، كما انتقدت مجلس السوفييتات في حينها.
وكلنا يعرف بأن الأحزاب الشيوعية بالدول العربية قد مارست وعلى امتداد الفترات المنصرمة، وبشكل خاص في فترات القادة الأوائل وما بعدهم، نهج عبادة الفرد، الذي بدأ به ستالين في عبادة شخصية لينين، لكي يُعبد هو الآخر أيضاً، وهكذا كان. وهذا يعني التصدي لمن ينتقد تلك الفترة، بحيث لم يجرأ أي شيوعي على انتقاد القادة الأوائل، إلا في فترات متأخرة، ولكنها كانت محفوفة بالمصاعب أيضاً. وهذا يعني أن على هذه الأحزاب أن تتخلى الآن أيضاً عن هذه المسألة التي اشعر بوجودها وتأثيرها السلبي على العمل الجماعي. وهي حالة شبيهة بولاية الفقيه الذي هو القائد الأعلى والمخول من الله في الحكم على الأرض وخليفة النبي محمد والأئمة من بعده، وهو أمر خطير ومجمد لعقل الإنسان وقدرته على التفكير والإبداع والنقد.
من تابع واقع الأحزاب الشيوعية في الدول العربية يعرف بأنها تمنع التكتل وتحرمه، ولكنها ابتليت بالشللية الممنوعة أيضاً، ولكنها مورست في العمل القيادي على نطاق واسع، سواء أكان في المكاتب السياسية أم في اللجان المركزية وفي مواقع أخرى. أؤكد بأنها ما تزال قائمة ومؤذية لعمل الأحزاب الشيوعي، وسبب ذلك غياب الديمقراطية أو نقصها الشديد، والخشية من إبداء الرأي.
غياب الحرية الفكرية في الأحزاب الشيوعية والتركيز في الماضي على الأربعة ثم الثلاثة العظام، وفهد (سوسف سلمان يوسف) السكرتير العام للحزب الشيوعي العراقي السابق والطيب الذكر، وعبد الخالق محجوب، السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني، وجورج حاوي بلبنان وخالد بكداش (1912-1995 بسوريا، توفي عن عمر بلع الثالثة والثمانين وكان مريضاً وعاجزاً عن العمل، ولكني بقي سكرتيراً عاماً للحزب، مما أدى إلى أكثر من انشقاق في صفوف هذا الحزب. أما ليونيد بريجنيف فبقي سكرتيراً عاماً للحزب الشيوعي السوفييتي حتى وهو يتكئ على شخصين في سيره....الخ، إضافة إلى اتهام الكثير من الشيوعيين والماركسيين بالتحريفية والانتهازية ...الخ، كلها ساهمت بعدم تطور الفكر الماركسي في أغلب الأحزاب الشيوعية والعمالية على الصعيد العالمي وبالدول العربية، كما إن التثقيف الفكري الوحيد الجانب، وإلى نشوء الإيمانية المطلقة بالنظرية الماركسية، وانتظار الجديد في الفكر والممارسة من الحزب الشيوعي السوفييتي قد حول الماركسية-اللينينية إلى دين جديد لا غير، نبيه ماركس أو لينين ومعهما بعض الأولياء الصالحين! واليوم ما أزال اسمع من يتحدث عن التحريفية، في وقت يفترض أن نعترف بأن القراءة الماركسية متباينة من شخص إلى آخر، ومن حزب إلى آخر، ومن بلد إلى آخر، ومن ثقافة إلى أخرى. ولهذا ليس هناك من محرف وآخر صحيح، بل أن التحليل الموضوعي وفق الظروف الملموسة، هو الذي يفرض نفسه على الواقع المعاش دون اتهام الآخرين بالتحريفية. فباب الاجتهاد الفكري والسياسي يفترض أن يبقى مفتوحاً على مصراعيه لأنه غير مملوك من أحد أو خاضع لحزب بعينه.
• كانت الحرية الفكرية والاستقلالية الفكرية غير واردة في الأحزاب الشيوعية بشكل عام، وغالباً ما كان يمنع الفكر والرأي الآخر من النشر. وقد تسبب هذا في إضعاف القدرات الفكرة وتطور الإمكانيات لدى
وغالباً ما ألتقي بشيوعيين يشكون من عدم نشر كتاباتهم لا لأنها ضعيفة، بل لأنها مخالفة لوجهة نظر القيادة، أو ما يطلق عليه بوجهة نظر الحزب خطأً!
• الشعور إلى حد الاقتناع الفعلي بأن الشيوعي هو أحسن الناس وأكثرهم صلابة ونضالية وأكثرهم وعياً وصواباً وأكثرهم امتلاكاً للحقيقة والحق. أدبيات الأحزاب الشيوعية كانت وما تزال مليئة بمثل هذه الأجواء، أملي أن تنتهي هذه الخرافة، فالشيوعي شأنه شأن أي إنسان آخر لا يمتلك الحقيقة كلها ولا الحق كله، وليس بالضرورة أفضل من بقية المناضلين ولا أسوأ منهم، إذ أن الأمر متباين من شخص إلى آخر ...الخ..
• غياب الاستعداد إلى إدخال تغييرات على القيادات الحزبية، فمن كان مسؤولاً يبقى في قيادة هذا الحزب أو ذاك حتى الموت، أو العجز المطلق عن الحركة، هكذا كان الأمر في الأحزاب الشيوعية والعمالية بالدول الاشتراكية وفي بقية الأحزاب الشيوعية بالدول العربية.
• هناك العديد من الشيوعيات الديناصورات والشيوعيين الديناصورين المخضرمين، مع احترامي الشخصي لهم ولنضالهم الطويل، العاجزين عن رؤية الجديد في العالم والذين ما زالوا يعتقدون بأن المؤامرة العالمية هي التي أسقطت الاتحاد السوفييتي، وليس النخر والخراب والفساد الداخلي في الحزب والدولة وغياب الديمقراطية وسيطرة الهيمنة الشمولية وعدم وجود أرضية اقتصادية واجتماعية مناسبة أو صالحة للاشتراكية وفق معايير ماركس لبناء الاشتراكية، إضافة إلى عملية تشويه نهج المادية الديالكتيكية وممارسة المادية التاريخية بصورة خاطئة ومسيئة وهادفة. إن هذه المجموعة من الشيوعيات والشيوعيين الذين لا هم لهم سوى الحنين غير المجدي للماضي وتمجيده والبكاء على المواقع المفقودة، يفترض فيهم أن يتخلوا عن العمل في قيادة هذا الحزب أو ذاك أو على رأس تنظيماته أو حتى فيها أو على رأس التنظيمات المهنية التابعة لهذه الأحزاب. وهذه المسألة لا ترتبط بالعمر وحده بل بالتربية والتثقيف الحزبي الماضي، الذي ما يزال أكثره حاضراً ومستمراً. إن على هؤلاء أن يتخلوا عن مراكزهم القيادية وأن يتحولوا إلى مشاركين في إبداء الرأي لا غير، وليس إلى مستشارين، وإلا فأن الشباب سيفقد قدرته على التحديث والتجديد والعمل المجدي وسيضيع في زحمة هؤلاء الناس وهوسهم في الحنين إلى الماضي كما هو حال كل السلفيين من كل الأنواع. وكما ألاحظ، فأن الرؤية الستالينية واللينينية، فكراً وممارسة، ما تزال ترهق كاهلهم وتثقل كاهل اهذه الأحزاب أيضاً.
إن لم تلعب الأحزاب الشيوعية دورها الفاعل في التخلص من هذه الظواهر القديمة وغيرها، ستبقى تعاني من الكثير من المعضلات وستبقى تتحرك على هامش الأحداث. إن متابعتي لعمل هذه الأحزاب في الوقت الحاضر لشيوعيين في القيادة والكوادر والقواعد تشير إلى ذلك، وإلى أن الحزب بحاجة ماسة إلى عملية تجديد وتحديث واسعتين وشاملتين، أو إلى تغيير حقيقي وفعلي.
وبالنسبة للحزب الشيوعي العراق قدمت له بعض المقترحات قبل انعقاد مؤتمره الثامن في العام 2007 التي يمكن أن تكون ذات فائدة للحزب الشيوعي السوداني وبقية الأحزاب الشيوعية بالدول العربية والتي أدونها فيما يلي:
• أن يتحول الحزب الشيوعي إلى حزب يساري ديمقراطي يضم في صفوفه القوى اليسارية الديمقراطية التي تتطلع لبناء عراقي مدني، حر وديمقراطي وعلماني، وأن يكون مستعداً لاستيعاب بنات وأبناء المجتمع من مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية. وهي مسألة مرتبطة بطبيعة المجتمع وبنيته الطبقية والتغيرات التي طرأت عليه خلال العقود المنصرمة والفترة الراهنة والتحولات الجارية في مفهوم وبنية الطبقة العاملة على الصعيد العالمي.
• أن يكون حزباً يدافع عن مصالح المجتمع العراقي ومصالح الفئات الكادحة والمنتجة للفكر والخيرات المادية والخدمات العامة.
• أن يغير اسمه من الحزب الشيوعي إلى اسم آخر ينسجم مع طبيعة المرحلة الجديدة ومهمات المجتمع الآنية وذات المدى المتوسط والبعيد، وليس المهمات الآفاقية التي تبتعد كثيراً من حيث الزمن. وهذا ما فعله الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي غير اسمه إلى "حزب الشعب الديمقراطي، أو "الحزب اليساري الديمقراطي" أو أي اسم آخر يتفق عليه الحزب. وهي ليست قضية شكلية بل جوهرية ترتبط بواقع البلدان العربية ووعي الغالبية العظمى من شعوبها وحاجاتها الفعلية، إذ لا بد أن ينسجم اسم الحزب مع مضامين المرحلة.
• أن يتخلى الحزب عن مبادئ الطاعة والمركزية الديمقراطية ووحدة الإرادة والعمل على الطريقة الستالينية أو اللينينية، مع الأخذ بمبدأ الديمقراطية والأكثرية والأقلية والانفتاح على الآراء. (راجع هنا مقالة البروفيسور فاروق محمد إبراهيم المشار إليه سابقاً حول الحزب الديمقراطي الجديد المنشود).
• أن يطرح الحزب نظاماً داخلياً جديداُ يقر فيه حق الشيوعي في حرية التفكير في الحزب، وإمكانية بروز اتجاهات متعددة ومنابر فكرية في إطار حزب يساري ديمقراطي، على أن يتم إقرار الخط العام من جانب الحزب بالأكثرية ويمارس فعلاً، ولكن لا يلغي حق الأفراد والجماعات في طرح وجهات نظرهم والدعاية لها ونشرها.
• أن يلتزم بمبدأ تجديد ثلث القيادة كل أربع سنوات ونصف القيادة كل ثماني سنوات، وأن يتغير السكرتير الأول ومكتبه السياسي كل دورتين، في ما عدا إذ تطلب الأمر، إخراج البعض قبل ذاك لأسباب مختلفة ووفق الشرعية والنظام الداخلي.
• أن يخفف من شروط العضوية ويلتزم بالقضايا العامة منها، والتي لا تخل بحرية الإنسان على الانتماء للحزب أو الانسحاب منه.
• أن يلتزم الحزب برنامجاً جديداً يؤكد فيه، (أشير هنا إلى بعض الأفكار البرنامجية وليس كلها ..):
- تمسك الحزب بالمجتمع المدني الديمقراطي واحترامه الكامل لحقوق الإنسان وحقوق المواطنة والحرية الفردية وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية والتعددية الفكرية والسياسية والتداول الديمقراطي البرلماني للسلطة ورفض العنف والحركات الانقلابية واستخدام السلاح للوصول إلى السلطة.
• سعي الحزب إلى تكريس مبدأ فصل الدين عن الدولة في الدستور والقوانين المرعية وإلى احترام جميع الأديان والمذاهب وحقها في ممارسة طقوسها وتقاليدها الدينية الإنسانية، إضافة إلى احترام كل الاتجاهات الفكرية والسياسية التي لا تخل بمبادئ الديمقراطية أو تدعو إلى العنصرية والشوفينية والطائفية السياسية والتمييز الديني القومي والأثني وبمختلف أشكاله الأخرى.
• العمل من أجل إقامة جبهة واسعة باسم "جبهة الديمقراطية والتقدم" بالدول العربية، تلتقي فيها وحولها كل القوى التي تسعى إلى ذلك لتناضل من أجل تكريس النظام الديمقراطي الدستوري المدني (والفيدرالي)، ومن أجل وضع دساتير إنسانية وديمقراطية وأكثر احتراماً للقوميات والأديان والمذاهب والأفكار وحقوق المرأة والمثقفات والمثقفين والتعدد الثقافي، وبعيداً عن الطائفية السياسية ورفض الدمج بين الدين والدولة.
• الأخذ بمبدأ اقتصاد السوق الاجتماعي الذي يمنح القطاع الخاص حرية الحركة ويحترم قوانين السوق، ولكنه في الوقت نفسه، ويحد من الصراع الطبقي المحتدم في المجتمعات العربية من خلال الحد من درجة الاستغلال التي يتعرض لها المنتجون فكراً وسلعاً مادية أو يمارسون الخدمات العامة، أي من خلال الاستفادة من أدوات السياسة المالية كالضريبة التصاعدية ووضع قوانين الضمان الاجتماعي والصحي والحد الأعلى لساعات العمل والحد الأدنى للأجور ...الخ.
• احترام الحزب للملكية الفردية والمبادرة الخاصة في الاقتصاد، وأن يمارس القطاع الخاص دوره الأساس في عملية التنمية والتطوير الاقتصادي.
• التزام الحزب بالحفاظ على ثروات البلاد الأولية بيد الدولة، ومساهمة قطاع الدولة بتنمية ثروات البلاد واستخدامها العقلاني بالطرق المناسبة والمشاركة في إقامة المشاريع الاقتصادية، الإنتاجية والخدمية، التي يعجز القطاع الخاص عن إقامتها.
• أن يعي الحزب طبيعة العولمة الرأسمالية الموضوعية ويميز بينها وبين السياسات العولمية التي تمارسها الدول الرأسمالية المتقدمة في إطار سياسات اللبرالية الجديدة كأداة بيد المحافظين الجدد. وبالتالي عليه ألا يرفض العولمة، جملة وتفصيلاً، إذ إنها عملية موضوعية لا بديل لها، ولكن يعي كيف يستفيد منها ويوظفها لصالح المجتمع في إطار القوانين الاقتصادية الموضوعية الفاعلة، مع العمل من أجل تجنب أو تقليص الآثار السلبية لسياسات العولمة للدول السبع الكبار، بسبب التمايز في مستويات التطور والبنية الاقتصادية. وهذا يعني أيضاً بأن على الحزب ألا يدعو للخروج من المنظمات الاقتصادية والمالية الدولية، بل التعامل معها على وفق الأسس التي تخدم مصالح العراق. فالعراق عضو في المجتمع الدولي واقتصاده يعتبر جزءاً من الاقتصاد الدولي ولا يمكن الانفصال أو الانعزال عنه، بل يفترض الاندماج فيه والاستفادة منه، ورفض الهيمنة عليه وممارسة الضغوط وإجبار الدول النامية على سياسات التكييف الهيكل والتصحيح الاقتصادي.
• الاستفادة القصوى والمناسبة من حرية حركة رؤوس الأموال على الصعيد العالمي لاستثمارها في اقتصاديات الدول العربية، لتعجيل عملية إعادة بناء الاقتصاد والمجتمع وتسريع عملية التنمية الاقتصادية والبشرية.
• استثمار الثروة النفطية والغاز والموارد الأولية الأخرى باتجاهين: تطوير عملية التصنيع الحديث من خلال استثمار الموارد الأولية المتوفرة محلياً من جهة، ومن خلال تصدير الموارد الأولية وتوظيف رؤوس الأموال في عمليات التنمية الاقتصادية والبشرية من جهة ثانية.
• العمل على ربط عملية التنمية بالبيئة واعتبار حق الإنسان في العيش في بيئة نظيفة جزءاً من حقوق الإنسان المشروعة.
• أن يدافع عن مصالح المجتمع، وخاصة المنتجين ويدعو للعدالة الاجتماعية في عملية توزيع وإعادة توزيع الدخل القومي وسبل استخدامه ومكافحة البطالة المكشوفة والمقنعة، وتقليص جهاز الدولة وتقليص بيروقراطيته المتشددة.
• تأمين مستلزمات إعادة إعمار الدول العربية التي دمرتها الحروب المتخلفة وتسريع عملية التنمية وتوفير الخدمات الأساسية للمجتمع المحروم منها خلال الفترات المنصرمة، والسعي لإيقاف عملية التضخم الجارية التي تتجلى في ارتفاع متسارع للأسعار التي ترهق كاهل الإنسان الكادح والفقير بشكل خاص بكل الدول العربية دون استثناء.
• احترام حقوق المرأة وحريتها ومساواتها بالرجل في كل المجالات وتحررها من سيطرة المجتمع الذكوري القائم حالياً.
• تطوير وتعزيز دور المثقفات والمثقفين والحياة الثقافية والدفاع عن مختلف الفنون والرياضة والعلوم التي تواجه اليوم هجوماً شرساً من جانب القوى الإسلامية السياسية المتخلفة وغير المتنورة والطائفية المقيتة التي تريد قتل العلم والفن والثقافة والرياضة والتفاعل والتلاقح الثقافي وقتل البهجة والمتعة الفنية في نفوس الناس. إن المثقف بالدول العربية، سواء أكان رجلاً أم امرأة، الذي لا يمارس دوره الآن بصورة طليعية وطبيعية، بسبب الحكومات الاستبدادية والأوضاع البائسة والإرهاب، يفترض أن تتغير وأن تتبنى الأحزاب هذه المهمة وتناضل من أجل استقلالية المثقف وحريته في الفكر والعمل والإبداع وضمان حياته وعيشه الكريم. وهذه القضية تشمل الإعلام ودوره الحيوي.
إن الأحزاب الشيوعية التي تناضل ضد الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي وضد القهر السياسي والثقافي، تدرك بأن هذه المهمات وتحقيقها هي التي تقرب الحزب من هدف بناء العدالة الاجتماعية، بناء الاشتراكية، على المدى البعيد، باعتبارها ليست من المهمات الآنية لهذه الأحزاب.
لا شك في أن بعض الأحزاب الشيوعية بالدول العربية قد اتخذ بعض الإجراءات التصحيحية أو تخلى عن بعض القواعد التي التزم بها سابقاً، ومنها دكتاتورية البروليتاريا، كما حصل في الحزب الشيوعي العراق، ولكني ما أزال أرى إنها بعيدة عما ينبغي ان يحصل في هذه الأحزاب لتتحول إلى أحزاب قادرة على المشاركة في طليعة العاملين لتغيير مجتمعاتهم والنظم الاستبدادية والطائفية القائمة في بلدانهم.
وأخيراً أحيي بحرارة الدكتور صديق الزيلعي على مبادرته في إصدار هذا الكتاب المهم بمناسبة "الذكرى السبعون لتأسيس الحزب الشيوعي السوداني" وجرأته في طرح السؤال الحيوي "هل يمكن تجديد الحزب الشيوعي السوداني ". أتمنى أن يجد صدى للمناقشة والتحليل وإبداء الرأي حول موضوعات الكتاب.
الدكتور صديق الزيلعي، هل يمكن تجديد الحزب الشيوعي السوداني؟، مركز آفاق جديدة للدراسات، بريطانيا، 2016.
2 الدكتور صديق الزيلعي، اقتصادي سوداني، وباحث في النقابات وعضو الحزب الشيوعي السوداني، انجز رسالة الدكتوراه بلندن في موضوع تاريخ النقابات والحركة النقابية بالسودان. مقيم بلندن.
3 أنظر: محمد محمود، الحزب الشيوعي السوداني: البيت الذي يناه عبد الخالق، ص 34-48) من كتاب "هل يمكن تجديد الحزب الشيوعي السوداني؟".
4 نفس المصدر السابق. بحث الدكتور فاروق محمد إبراهيم، الحزب الشيوعي السوداني والدعوة لحزب ديمقراطي جديد. ص 274-323.
5 المصدر السابق نفسه بحث للدكتور صديق الزيلعي بعنوان "مقدمة في نقد المركزية الديمقراطية". ص 453-473.
مقالات اخرى للكاتب