شيء في صدري وعقلي دون أن أعرف كنهه يعيدني بين حين وحين الى تلك الحقبة من الزمن – حقبة الخمسينيات من القرن الماضي – يوم كنا تلاميذ في المدرسة الابتدائية اولا وفي المدرسة الثانوية ثانيا ..كنا نسكن بيوتا طينية في أزقة ، وفي حين العودة من المدرسة نبدأ بكتابة الواجبات الثقيلة المفروضة علينا أما أثناء الليل فنبدأ بالقراءة على ضوء الفانوس الباهت اذ لم يكن نور الكهرباء قد دخل بيوتنا وأزقتنا في تلك السنوات الأولى من تلك الحقبة . وكان يساورنا خوف شديد من النظام المدرسي الصارم الذي يفرض العقاب على أي تهاون في السلوك أو في أداء الواجبات المدرسية ..لذا تكون قلوبنا واجفة ونحن ازاء حضرة المعلمين ..فلما اجتزنا المدرسة الابتدائية الى المدرسة الثانوية وقد أصبحنا صبية ولدينا خزين من المعرفة تغيرت نظرتنا الى ما يدور حولنا لا سيما بعد أن دخل نور الكهرباء الى بيوتنا وأزقتنا ونجلس الى المذياع نتلهف الى سماع أخباره وأحاديثه وأغانيه . يبدو أنني تجاوزت عن صلب النوضوع بعض الشيء رعم الرابط بينهما . ان الأسرة التي أريد أن أتحدث عنها في تلك الحقبة أولا هي أسرة متماسكة يخشى فيها الصغير الكبير والخشية أكثر ما تكون للأب أكثر مما للأم ، فالأب تبدو ملامحه على الدوام أمام أعيننا قاسية رهيبة رغم أن قلبه يحمل التعاطف على أبنائه ولكن هكذا كان ذلك الجيل من الآباء . والآباء على العموم يعملون طيلة النهار في أعمال حرة ليكسبوا نقودا قليلة تسد رمق أسرهم ، والبعض القليل يعملون في وظائف حكومية ليكون مستوى معيشتهم أفضل من الآخرين .
ومع هذا وذاك فقد كنا قانعين بما يتوفر لنا من مأكل وملبس ومسكن .
أما الأم فهي الصدر الحنون لأبنائها .. قلبها الرقيق لا يسعه أن تتعامل معهم بخشونة أو أن تضربهم الضرب المبرح كما يفعل الأب لسبب أو لغير سبب .
هي تعمل طوالالنهار في بيتها من تنظيف وغسيل وطبيخ وصنع أرغفة خبز في وقت لم يكن تتيسر فيه أية وسائل ترفيه وخدمات تكنولوجية .
وهي على العموم صابرة محتسبة ، مطيعة الطاعة العمياء لزوجها ، لا تعرف عن العالم الخارجي شيئا .. تكاد الأمية تغلب على الكثيرات منهن .
تلك هي الأسرة في تلك الحقبة ، ملزمة بتقاليد راسخة وبعلاقات لا تخلو من ود وتعاون مع بقية الأسر التي تقطن الزقاق .
أما اذا تحدثنا عن الأسرة بعد هذه الحقبة وخاصة بعد قيام ثورة 14 تموز عام 1958 وانتقال العراق من نظام ملكي الى نظام جمهوري فان أساليب الحياة بدأت تتغير بسرعة مذهلة ..
وما أن جاءت فترة الستينيات حتى ارتقى مستوى المعيشة وانتشرت المدارس على نطاق أوسع ودخل التلفاز الى كل بيت وبه بدأ أول تفكك اجتماعي بين أفراد الأسرة رغم ما فيه من برامج ثقافية نافعة ، فبينما كان أفراد الأسرة يتحادثون ويتسامرون ليلا يستمع الأبناء النصح والارشاد من الأبوين راحت أبصارهم وسمعهم يتجه الى شاشة التلفاز .. وبمرور الأيام أخذنا التلفاز الى عالمه السحري تاركين وراءه ما كنا عليه من نوم مبكر ومن علاقات حميمة بين أفراد الأسرة .
وكلما مضى عقد من السنين نجد تغييرات هائلة في الأسلوب وطريقة العيش والسكن للأسرة حتى كادت الأزقة تنعدم بعد انتقال أكثر الأسر الى قصور شاهقة في أحياء جديدة تتسم بطابعها العمراني ..
انه التطور يفرض نفسه لكن على حساب الصحة والراحة والسعادة التي رحنا نفتقدها غالبا ..وهكذا آلت العلاقات الاجتماعية الى ضعف داخل الأسرة ومع الأسر الأخرى المجاورة .
ولم تعد المرأة ترضى كما كانت المرأة من قبل بالكفاف ولا بتلك الطاعة العمياء للزوج بل أن بعضهن أخذن زمام الأمور بأيديهن ويجادلن الزوج بصوت عال دون مراعاة لمشاعره وأنه هو القوام عليها .
أما الأبناء فهم في واد آخر عن آبائهم .. يجالسونهم وجها لوجه ويتحدونهم أحيانا ويعصونهم ويعقونهم لا سيما في السنوات التي أعقبت الاحتلال .. السنوات التي شوهت وجه الوطن عموما والأسرة خصوصا لتبدأ انحرافات بين أبناء هذا الجيل ولتسوء الأخلاق ضاربة عرض الحائط كل القيم التي ورثناها من قبل ..
انها الطامة الكبرى التي تواجهنا ، فأية مقارنة بين أسرة الأمس وأسرة اليوم رغم كل التقنيات الحديثة التي ننعم بها وأن في بعضها ضررا كبيرا يفسد العقل والبدن اذا ما أستخدم الاستخدام الخاطيء بسلبياته دون ايجابياته كالأنترنيت مثلا والهاتف النقال .
وان الحديث لطويل وأن القلم يريد أن يمضي بلا توقف ولكني أنا أخيرا قلت كفى .
مقالات اخرى للكاتب