الحديث عن الحرية حديث له لذة بين شعوب العالم ولكنه يختلف من مكان لآخر ، فالغرب يتغنى بتعدد الحريات في مجتمعاته وتمتع شعوبه بها فمن حرية الفرد الى حرية الضمير (الاعتقاد) وحرية الفكر وحرية التظاهر وحريات آخر ، وليس هذا فحسب فهم يتغنون-ويحق لهم ذلك- فقد شغل مفهوم الحرية الوجدان و الفكر الغربي منذ زمن بعيد ولهم جذور راسخة أسست لهذا المفهوم ونحتته في ضمير الامم الاوربية .
اما شعوب العالم الثالث و الدول النامية ولأكون اكثر تحديدا وصراحة (الشعب العربي) فيتغنون بوهم وحلم الحرية . وظل مفهوم الحرية غير معروف لديهم ففي كتب اللغة نجد ان معنى الحرية لا يتجاوز نقيضها فالحر ضد العبد . ولم يعرفوا المعنى السياسي للحرية لعهود طويلة حتى بدأت مرحلة مصيرية من تاريخ العرب.
وحديثنا اليوم ناشئ عن المرحلة الخطيرة و المحورية التي تمر فيها مصر ، ولتذكيرهم بان لديهم الكثير ليقرأوه ويتبعوه لانهاء ازماتهم التي تعصف بهم وساقدم لمحة بسيطة عن تطور مفهوم الحرية في الفكر المصري قبل الدخول في صلب الموضوع وهو (عبد المتعال الصعيدي:مجدد الازهر).
ربط المؤرخين دوما فجر العصر الحديث للشرق الاوسط بحملة نابليون على مصر 1798-1801 باعتبار ان مطلع القرن التاسع عشر يزامن الحملات الاستعمارية الاوربية للعالم العربي التي أحدثت تغييرات جوهرية كبيرة في المنطقة ،وواحدة من تلك التغييرات هي ادخال الفرنسيين مفهوم "التحديث، و الليبرالية" تلك المفاهيم السياسية التي كانت غائبة عن الفكر العربي قبل نابليون . ويظهر هذا التحول في الفكر العربي من خلال كتابات اثنين من المؤرخين المصريين : عبد الرحمن الجبرتي 1754-1825 و رفاعة رافع الطهطاوي 1801-1873، ويتم تصوير الجبرتي على انه ممثلا للفكر العربي-الإسلامي التقليدي الرافض للحداثة ، واعتبار الطهطاوي الذي درس في فرنسا ممثلا للعصر الحديث.
مع ذلك ، فقد تم الطعن بهذه الافتراضات من قبل بعض الباحثين ، بيتر جران على سبيل المثال ، يناقش في كتابه الجذور الإسلامية للرأسمالية ان مصر القران الثامن عشر بعيدا عن كونها ضحلة ثقافيا ، فقد شهدت نهضة تجارية صاحبتها نهضة ثقافية في التاريخ و الادب خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر خصوصا من 1760-90 لا ينبغي النظر الى اعمال الجبرتي باعتبارها انتاج ابداعي في فراغ ، بل هو تتويج لاحياء كبير في للكتابة التاريخية ايضا وصفت نيللي حنا التنمية في القرن الثامن عشر لثقافة الطبقة الوسطى في مصر انها تشكل واحدة من الاسس التي قامت عليها الحداثة في القرن التاسع عشر وهي تناقش ثقافة الطبقة الوسطى التي عبرت عن نفسها من خلال الكتب و الصالونات الادبية التي حملت طابعا لا ديني وهذا تناقض كبير مع الادعاء بان القرن الثامن عشر سيطر عليه الدين وان العلمانية لم تأتِ الى مصر الا بعد مجيء الفرنسيين. اضافة الى ذلك ، يقول جين مورفي ان ازدهاء العلوم ازدهرت في مصر بين علماء الدين بما في ذلك الجبرتي.
ولننتقل الى الطهطاوي الذي مثل روح التحديث العربي في مصر بعد زيارته التاريخية الى فرنسا فقد علق على مفهوم الحرية :
"ما يسمونه الحرية ويرغبون فيه هو عين ما يطلق عليه عندنا العدل و الانصاف، وذلك لان معنى الحكم بالحرية هو اقامة التساوي في الاحكام و القوانين، بحيث لا يجوز الحاكم على انسان بل القوانين هي المحكمة و المعتبرة، فهذه البلاد حرية يقول الشاعر:
وقد ملا العدل اقطارها وفيها توالى الصفا و الوفا"
وهذه محاولة منه ايضا لتوضيح ان الحرية هي المسار الاشمل لحياة الانسان وهي بالضرورة تنقض مفهوم العبودية في بلاده .
وفضلا عن تقديمه شرح عام للحرية فقد وصف الطهطاوي عدة انواع من الحريات بما في ذلك الحرية الدينية وهي من ضمن المباديء الواردة في القانون الفرنسي،وقد ترجم المادة الخامسة التي تنص على : "كل انسان موجود في بلاد الفرنسيس يتبع دينه كما يحب لا يشاركه احد في ذلك، بل يعان على ذلك ويمنع من يتعرض له في عبادته". "ومن الاشياء لتي ترتبت على الحرية عند الفرنساوية ان كل انسان يتبع دينه الذي يختاره يكون تحت حماية الدولة ويعاقب من تعرض لعابد في عبادته...وكل فرنساوي له ان يبدي رأيه في مادة السياسات او في مادة الاديان، بشرط ان لا يخل بالانتظام المذكور في كتب الاحكام"75. وبهذه الطريقة اقام الطهطاوي علاقة مباشرة بين الحرية و حماية ممارسة الشعائر الدينية في حين ان القانون نفسه لم يوفر شرحا لها، وعلم ايضا ان هناك بعض الحدود الواجب وضعها على هذه الحريات .
ومرّ زمن طويل ولم يتلفت احد الى هذه التطورات العميقة في الفكر العربي القادم من العقل المصري الذي استطاع ان ينتج فكرة حقيقية عن الحرية ، حرية العبادة وحرية الفرد وحرية العيش بكرامة .واستمر الازهر بجموده الذي كان من المفترض ان يحقق في تطوير ذاتي للكيان الازهري والا يتبع السلطة بل يوجهها في طريق العدل و الانصاف ولكن هذا لم يحدث الا ان جاء الازهري الفريد عبد المتعال الصعيدي،ولن اسهب في سيرة حياته بقدر ما ساهتم بافكاره الطرية التي تصلح لتطبيقها اليوم في مصر خاصة و العالم العربي بشكل عام .
يصدر كتابه"حرية الفكر في الإسلام" بتعريف للحرية السياسية بأنها "احترام رأي الفرد في الحكم بحيث لا تضيع شخصيته في شخصية الحاكم، بل يكون لرأيه سلطانه فيما يراه ولو تعلق بشخص الحاكم نفسه، فيكون له الحق في معارضة إسناد الحكم إليه، وفي نقد أعماله بالوسائل النزيهة في النقد".
ويفرد فصلا كاملا عن «الإسلام والحرية السياسية» ويكتب منحازا لمعارضة الحاكم قائلا:«ولما كانت الأمة مصدر السلطات كان لكل فرد من أفرادها حق في هذه السلطة، فيؤخذ رأيه في تنصيب الحاكم، ويكون له حق الاعتراض علي ما يري الاعتراض عليه من الحكم، ويكون له حرية تامة في ذلك، أصاب في اعتراضه أو أخطأ.. ذلك لأن الفرد كان له حق الاعتراض علي الحاكم في عهد النبوة، وهو ما هو من اتصاله بالوحي السماوي، وكان الاعتراض علي النبي صلي الله عليه وسلم من الأفراد في بعض أحكامه يتجاوز أحيانا حق الاعتراض المقبول».
وهذا النموذج السياسي للحكم القائم على التشارك و التراضي و التوافق للدولة نابع وصادر من فكركم ايها المصريون ، ان لكم القدرة على تبني اشد الانظمة دقة لتفادي ازماتكم ، انها دعوة لكم لتقرأوا التاريخ ولتعرفوا ان مصر ام الدنيا تستحق منكم الرحمة و الرأفة و التعامل بمحبة ومودة ، اياكم و الانجراف وراء الدعوات الخبيثة التي ترسل بكم الى طريق اللاعودة .
ان لكم تاريخ يكفي بان يبني نماذج باستطاعته حكم العالم بالعدل و الانصاف رغم المراحل الطويلة من الاستبداد التي عانيتهم منها . انكم اليوم قادرون على معانقة بعضكم البعض وحفظ دماءكم ، فان راقت تلك الدماء فلن يكون احد من بينكم رابحا بل الكل خاسرون .
ان ما يسموه اليوم الحكم الاسلامي في مصر بعيد كل البعد عن الاسلام الحقيقي وانما هي زوبعة جاءت بها التراكمات البعيدة و الكثيرة التي خلقت عقولا جامدة غير قابلة للتطور و التطوير .
اقرأوا ايها المصريون وليكن عقلكم قبل يدكم ، دعو العقل يقود حركاتكم وليس العواطف ولا الانجراف اللاواعي .