في الكثير من الكتب العربية التراثية يزخر ويزهو حديث طويل عن المشروع الحضاري العربي الإسلامي، وفي الكثير من الأحيان تأتي مقولات المتحمسين لهذا الشعار، الذي يمثل بلا شك العودة إلى الذات، والتي تعبّر عن حلم مكبوت بل ومغتال أكثر مما تعبّر عن رؤية واضحة واستقاء علمي، إلا جانب قليل لمفكرين قلائل يعتبرون فلتة التاريخ.
وربما يذهب الحماس ببعض المفكرين بعيدا فيرفعون شعار المستقبل الإسلامي في قائمة علم المستقبليات في الغرب على التكهن بمستقبل العالم الإسلامي ورصد حركة التاريخ العربي الإسلامي على مدى عقود طويلة، ولدى هؤلاء مبرراتهم لرفع هذا الحمل واختيارهم لهذا الميدان، ولكن المؤكد إن علم المستقبليات كما هو معروف في الغرب إذا طبق في بلادنا العربية الإسلامية، لن يقدم لنا سوى صورة طبق الأصل عن الواقع السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي المنحط والمهلهل.
إنه صورة مدمرة عن الواقع الكالح الأسود التافه الذي ينتظرنا نحن المسلمين، ولكن ليس أفضل من الاهتمام بالمستقبليات التي لن نخرج منها سوى بنتيجة مكررة عن الواقع المدمر ، وبفهم الأحداث التي حركت المشروع العربي الإسلامي خلال قرون طويلة، والتي كانت دائما قائمة من أولوياته ولم يكن يقبل المساومة فيها في يوم من الأيام، والتي من دونها يصبح كل عمل وكل جهد عبارة عن نفخ في الرماد ونقش على الماء، وهذا العلم الذي سوف يمهد لقيام علم مستقبليات إسلامي خاص بنا.
ويمكن ذلك من خلال التركيز على عملية التوحيد (بمفهومه العقائدي) والوحدة بمفهومها السياسي، إنه الميل نحو توحيد الخالق في ألوهيته وربوبيته بكل ما تحمله من نظرة في الحياة والكون والإنسان، والميل دائما إلى الوحدة بمفهومها السياسي، لذلك ظل الفقه السياسي الإسلامي يرفض على الدوام فكرة أكثر من خليفة للمسلمين، ولعل جميع المآسي التي أصابت الأمة الإسلامية كانت نتيجة النزعة العصبية والمذهبية التي كانت تحركها أياد مغرضة من اليهود في الغالب، مدركة تماما معنى الوحدة الفكرية والجغرافية والسياسية خطرا على وجودها. إن تفتت المجتمع إلى فصائل متصارعة لن يخدم المشروع العربي الإسلامي في شيء، بل سيزيد في اتساع الهوة بين أقطار الوطن العربي.
كما ان التجربة التاريخية العربية الإسلامية كانت تهدف دائما إلى الانتقال من المجتمع من (خشونة البداوة إلى رقة الحضارة) كما يقول ابن خلدون. ومن يقرأ تاريخ النظم الإسلامية يجد أن تمصير الأمصار (المدن) هي هدف قائم بحد ذاته، فقد شيدت الكوفة والبصرة وعمرت دمشق وأنشئت الفسطاط بمصر والقيروان بإفريقيا، ثم توالت العواصم الحضارية الكبرى من بغداد إلى القاهرة، فضلا عن الحواضر التي استجمعت شرقا وغربا، كبخارى وأشبيلية وقرطبة وغرناطة، هكذا كانت الانطلاقات الكبرى في تاريخنا الإسلامي، التي كان يقف وراءها نزوع قوي نحو التمدن بكل ما يحمله من منهج في التفكير وأنماط في السلوك، وكذلك جميع الانتكاسات في تاريخنا العربي كان سببها عودة النزعة البدوية.
كذلك الحرص الدائم على عقلنة الأشياء والارتقاء بالعقل المسلم من سيطرة الخرافة والأساطير إلى إدراك الأشياء العلمية وفهم القوانين التي تحكمها، ولهذا السبب اشتهر المسلمون دون غيرهم بالميل إلى المنهج التجريبي، في الوقت الذي كانت كانت أوروبا تعتقد أن الأرواح الشريرة هي التي كانت تتحكم في الظواهر الفيزيائية والبيولوجية، وفي المقابل كانت كل نكسة في تاريخنا مرتبطة بعودة الخرافة، والأمثلة في ذلك عديدة.
وهذا يمكن ان يكون مجرد ضمانات لنجاح المشروع الإسلامي اذا وضع بالحسبان كذلك وجود ربط الأمر بالنص ، كما ان النص في الفكر الإسلامي اسهم في تشكيل الحضارة، وادى دورًا مهمًا في تحديد طبيعة علومها، فارتكازها للنص يجعل من التأويل -وهو الوجه الآخر من النص- يمثل آلية مهمة في تكوين المعرفة.
ويرى نصر حامد أبو زيد في كتابه (نقد الخطاب الديني) أن النص في حقيقته وجوهره (منتج ثقافي)، والمقصود بذلك أنه تشكل في الواقع والثقافة خلال عشرين سنة، وإذا كانت هذه الحقيقة تبدو بديهية ومتفقًا عليها، فإن الإيمان بوجود ميتافزيقي سابق للنص يعود لينكر هذه الحقيقة البديهية، ويعكر من ثم إمكانية الفهم العلمي لظاهرة النص.
إن الإيمان بالمصدر الإلهي للنص أمر لا يتعارض مع تحليل النص من خلال فهم الثقافة التي ينتمي إليها، ولنقل بعبارة أخرى: إن اختيار الله ليوحي إلى نبيه محمد بلغة المستقبل ليس اختيارًا لوعاء فارغ، وإن كان هذا ما يؤكده الخطاب الديني المعاصر, ذلك أن اللغة أهم أدوات الجماعة في إدراك العالم وتنظيمه، على ذلك لا يمكن أن نتحدث عن لغة مفارقة للثقافة والواقع، ولا يمكن أن نتحدث عن نص مفارق للثقافة وللواقع، فهو نص داخل إطار النظام اللغوي للثقافة. إن ألوهية مصدر النص لا تنفي واقعية محتواه، ولا تنفي من ثم انتماءه إلى ثقافة البشر، وعلاقته الجدلية مع الواقع.
وللتأويل متغيرات تسهم في تعدده واختلافه، هناك طبيعة العلم الذي يتناول النص، أي المجال الخاص الذي يحدد أهداف التأويل وطرائقه، ثاني هذه المتغيرات هو الأفق المعرفي الذي يتناول فيه العالم المتخصص من خلاله النص؛ فيحاول أن يفهم النص من خلاله، أو يحاول أن يجعل النص يفصح عنه، بمعنى آخر أن أي عمــلية تأويلية مرتبطة بمبادئ مسبقة ليست من النص هي المسؤولة عن عملية التأويل.
وعليه ان كل ماجبل من احكام وتأملات ومفاهيم كانت بسبب التأويل الذي بعضه يصادف العقل بموضوعيته او يخالف كذلك ان اسلوب التأويل ماهو الا اسلوب مهذب لاضافة ماليس في النصوص اصلا ، وكذلك كون اغلب المفسرين قد فسروا النصوص في زمان ومكان وحياة غير التي نحن فيها ، وربما فسروا القرآن تحت ظروف معينة او اضافوا واخفوا بعض الامور خشية الحكام انذاك او خشية ان يشملهم عقاب الزندقة الذي فشا في زمنهم ، والان قد شهدت الحياة تطورا لم يكن للإسلام علم به وعليه فأن النصوص لابد لها من اعادة نظر وتأويل اكثر منطقية لينسجم مع طبيعة الحياة وتطورها ، وربما هذه دعوة شاملة لاعادة تأويل القران بما يلائم طبيعة العصر كي تختفي بعض المفاهيم السائدة والتي فيها تسفك الدماء وتسبى النساء كما نشهده الان وعلى مدى واسع.
مقالات اخرى للكاتب