مرت قبل يومين الذكرى السادسة عشرة لرحيل شاعر العراق الأكبر محمد مهدي الجواهري، الرمز الوطني الذي أرخ للبلاد وأحداثها فكان هو العراق لساناً ودماً وكياناً.. صاحب يوم الشهيد وآمنت بالحسين وقلبي لكردستان.. مرت ذكرى رحيلة بصمت مثلما مرت ايضا وقبل ايام مئوية المفكر الكبير علي الوردي، مرت ذكراهما وسط صمت حكومي بامتياز. فكان التجاهل، ونكران الجميل والنسيان لاثنين من بناة النهضة العراقية الحديثة، اللذين اتمنى عليهما ان لا يغضبا او يحزنا لأننا اليوم نعيش عصر أمراء الطوائف والمحاصصة البغيضة والبحث عن الغنائم، عصر المحسوبية والانتهازية، والنواب الذين يتهالكون على الامتيازات اكثر من تهالكهم على حضور جلسات البرلمان، عصر وزعت فيه رواتب تقاعدية لسياسيين امضوا تسعة اشهر في الخدمة قضوها بين مصايف لبنان وابراج دبي!
ايها الشاعر المكافح في سبيل عراق حر وديمقراطي، وايها المفكر الذي حذرتنا دوما من زمن السلاطين وطالبتنا بان نعيش زماننا ونخرج من كهف القرون الوسطى، ألم تكتب يوما بمنتهي الصراحة عن الذين يتمسحون بالدين من اجل الحصول على اكبر قدر من المنافع والمغانم: " يظن البعض ان لو رأوا علياً بينهم اليوم لاجتمعوا إليه ونصروه ولما تفرقوا عنه، وهم في ذلك انما يخادعون انفسهم.. فلو ظهر اليوم بيننا رجل كعلي بن أبي طالب عادلا يساوي بين الناس فلا يداري اهل الجاه والنفوذ، ولا يغدق اموال الأمة على الأصحاب والأنصار ولا يُحابي ولا يُجامل لتفرقنا عنه كما تفرق اسلافنا ولأقمنا الدنيا عليه وأقعدناها.. واحسب ان اكثر الناس عداءً سيظهرون له من بين هؤلاء الذين يتبجحون اليوم بحبه والتغني بأمجاده "، دعاة الديمقراطية اليوم تناسوكما لانهم مشغولون بمعركة كسر العظم.. اما القائمون على وزارة الثقافة فهم مهمومون بإقامة اسابيع ثقافية نجومها مدراء عامون وسكرتيرات ومدراء مكاتب، كما أنكما لا تنتميان الى حزب من احزاب هذا الزمان، يجبر مؤسسات الدولة على اقامة الاحتفالات والموائد.. ولستما من دعاة القبلية حتى تطالبا بـ"ضرورة تشريع قانون المجلس الوطني للعشائر لتهذيب الأعراف الطارئة على المجتمع العراقي"، الامر الذي سيدفع رئيس مجلس الوزراء الى منح عوائلكما مسدسات فاخرة.. كما ان ذكرى رحيلكما تزامنت ونواب مجلسنا الموقر يخوضون حرب الحصول على المخصصات الليلية.. واجور الطوابع، فيما السيد نوري المالكي ترك الكهرباء والمليارات التي سُرقت باسمها، وأدار ظهره لفضيحة ابو غريب والتاجي، ليبشرنا بأننا سندخل معه العصر النووي، وإذا كانت بعض شعوب العالم تحتفل بمفكريها وأدبائها الكبار، فهذا لأنهم شعوب عاطفية اكثر من اللازم، ويملكون وقتاً فارغاً لا يعرفون ماذا يفعلون به، فلا تصدق ايها الشاعر الذي مات منفياً من اجل وطنه، ان هناك من يهتم بذكرى رحيلك، فالوطن اليوم مشغول بما هو اهم، فأنت لا تنتمي لشلة دولة القانون، ولا ترتبط بصلة قرابة مع احد رؤساء الكتل السياسية وانت لم تكتب قصيدة مديح في الانجازات العملاقة التي حققتها حكومة المالكي في زمن قياسي.. وخطيئتك الكبرى انك لم تؤجل موتك لتلتحق بركب " سياسيي الصدفة "، فتصبح زميلا للشاعر علي الشلاه في لجنة الثقافة والإعلام البرلمانية. اما انت يا صاحب مهزلة العقل البشري، ايها المنسي، فإن مدينتك الحبيبة "يغداد" يريد لها البعض ان تعيش زمن القرون الوسطى.. وان تغرق في بحور من التخلف والقمامة والنسيان وسط ضجيج سياسيين أدخلوا كل غرباء الارض الى مخدعها..
عفواً ايها الراحلان هذا ليس زمانكما، و بالتالى لا تحزنا منا على هذا التجاهل، فنحن نعيش عصر النائب " الرشّاش " محمود الحسن، الذي دخل مجلس النواب بستة اصوات فقط لاغير.
نم قرير العين ابا فرات، فان نسيانك، انت، من حكام اكل السحت , أمراء الطوائف، شرف لك، ما دمت، وكل عظماء شعبنا، تحتل مكاناً اثيراً في قلب كل عراقي وطني شريف، وفي ضمائرنا. وهل يمكن ان تغيب عن المشهد، وها انت تصف ما نحن فيه من هوان في رائعتك.. يا طرطرا:
أي طرطرا، تطرطري.. تقدمي، تأخري
تشيّعي، تسنّني.. تهوّدي، تنصّري
تعممي، تبرنطي.. تعقلي، تسدري
في زمن الذرّ إلى بداوة تقهقري
وألبسي الغبيَّ والاحمق، ثوب عبقر
وافرغي على المخانيث دروع عنتر
أكاد أسمع صوت الجواهري في ذكرى رحيله يسخر من الذين يعتقدون ان الحكومة بوضعها الحالي مشغولة أصلا بالإبداع والثقافة ويقول: إن خطوات أقطعها فى اعتصام البصرة، أو مساهمة فى تظاهرات الانبار بألف مهرجان مما تعدّون..
فيما علي الوردي يدخل مئويته مبتسما ساخرا، يذكرنا بانه قال قبل خمسين عاما اننا: "نعيش عصر النهابين بدلاً من عصر المنتجين والمبدعين..ولهذا صار كثير منّا ينهبون المال لكي يشيدوا القصور التي تزيد عن حاجتهم عشرات المرات، وحين يفعلون ذلك يقدرهم الناس ولسان حالهم يقول: جيب نقش وكل عوافي"!!