الفضيحة التي جرت في مدينة السماوة على أثر الحكم اللا إنساني بعام واحد على طفل بعمر الورود ( ١٢ عام ) لم يبلغ سن الرشد بعد وهو نازح من الأنبار كان قد ترك بيته غصباً بعد أن كان فوقه سقفاً يأويه وعائلة تحتضنه ، وطعاماً متوفر يملأ معدته ، ومدرسة يتعلم فيها ويلعب ويلهو مع أقرانه دون خوف أو وجل ، وفجأة وجد نفسه غريباً شريداً تطارده النظرات وترصده عندما مدّ يده لأخذ ( ٤ علب كلينكس ) لا يساوي ثمنها ( رغيف خبز ) يسد به رمقه ويشبع بطنه الخاوية .
ليس هنا في وارد ( القصاص والعقاب ) ، وعلى السارق أن يدفع الثمن ، وهذا العدل بعينه ، لكن من غير العدل هو أن لا يُنظر إلى موضوع السرقة ومسبباتها ، وهل كانت إمتداداً لسرقات أخرى قديمة حتى أصبحت عادة سيئة يجب ردعها وإيقافها .
الطفل نازح ، والنزوح جماعي مع أهله وأقربائه وأصدقائه ، ولم يبق شيئاً في أيديهم يقتاتون به ويعتاشون عليه ، جوع ، عطش ، مرض ، يأس ، حالة نفسية متدهورة تحتاج إلى جلسات طبية عديدة لعلاج آثارها ، وبعبارة أوضح لم يعد هناك من مرتجى لإعادة كل شيء إلى وضعه الطبيعي . لذا جاءت حالة الإحباط دافعاً للتمسك بالبقاء ، وهو ما قام به الطفل تفادياً للموت من الجوع بأن تمتد يديه النحيلتين لأخذ ولا أقول سرقة ( ٤ علب كلينكس ) لغرض بيعها وشراء ما يسد به رمقه ويبقيه على قيد الحياة .
أنا لست قاضياً ، ولست ضليعاً بالقوانين الجزائية وأي القوانين الواجب تطبيقها ، ولكني أتساءل هل هناك أمور إنسانية تدخل بين سطور القوانين لتجعل منها لينة وأكثر واقعية وغير جامدة .
لقد شاهدت فيديو جميل مصدره إحدى ( دول الكفر ) لمحاكمة رجل إرتكب ( مخالفة سير ) وأثناء المحاكمة جلب الرجل معه زوجته وإبنه الصغير الذي يبلغ من العمر خمسة سنوات ، وعند المحاكمة ، توقف القاضي لبرهة عند مشاهدته ذلك الطفل الجميل ، وطلب من الرجل أن يسمح لإبنه الصغير أن يأتي ليجلس إلى جانبه وطلب إذناً من الأب أن يضعه في حجره فوافق الأب . وبعد أن سأل القاضي الطفل عن إسمه وعمره ، قال له والدك قد إرتكب مخالفة مرورية ، وحسب القانون الذي بين يدي عليّ أن أحكمه بغرامة تتراوح بين ( ٩٠ و٣٠ و١٥ دولار ) ، وإن كنت أنت القاضي بأي مبلغ ستحكم عليه ؟ ، أجاب الطفل بـ ٣٠ دولار ، فإبتسم القاضي وقال للطفل : شكراً لقد ساعدتني بالوصول إلي الحكم المطلوب . وسأل القاضي الطفل ، هل تناولت الفطور قبل أن تأتي إلى المحكمة مع والدك ؟ قال الطفل لا . أجابه القاضي فأنا أطلب من والدك الآن أن يذهب معك إلى ( المكدونالد ) ليصرف عليك المبلغ الـ ٣٠ دولار ، فهل أنت موافق ؟ ، أجاب الطفل مبتسماً نعم .
نعم .. هناك قاضي ومحكمة وقانون ، لكنه لم يكن قاضياً متحجراً ولا قانوناً جامداً لا روح فيه ولا نفس يُطبَق بالمسطرة وبالسنتمترات وأجزاءها ، بل فيه من روحية الإنسان إنسانيته ، التي تدعو إلى الخير والصلاح لا إلى العقاب القسري غير المبرر .
ومن بلاد العم سام هناك مثلاً آخر ، حيث تم في ولاية ألاباما الإبلاغ عن حالة سرقة من ( سوبر ماركت ) بطلتها إمرأة سوداء إسمها هيلين ، وعندما حضر الشرطي لإعتقالها بتهمة السرقة ، وجد أن هيلين قد سرقت ( خمس بيضات ) ، وقالت له أنها لم تأكل منذ يومين هي وعائلتها . قرر عدم إعتقالها بل على العكس تماماً إشترى لها ( سلة بيض ) وأخذها بسيارة الشرطة إلى منزلها ، وبعد يومين جاء مع زميل له بسيارتين محملتان بالطعام من تبرعات جمعها لها حيث قالت له : إنه لا حاجة لأن تفعل لي كل هذا يا سيدي !! .
كان رد الشرطي : إننا لا نحتاج إلى القانون أحيانا بقدر ما نحتاج إلى اﻹنسانية .
ولنعود إلى المحكمة الموقرة التي حكمت على الطفل الأنباري وإلى السيد القاضي الذي نطق بالحكم ، هل أن هذه الهفوة التي قام بها هذا الطفل الغلبان تتساوى مع سرقة المليارات والتي قام بها البعض مِن مَن لهم السلطة والجاه وأطلق سراحهم لعدم كفاية الأدلة !! .
والآن هل هناك من نص قانوني يُحرم الرأفة والرحمة حين يقتضى الأمر ، وأن شعار ( العدل أساس الملك ) الذي قاله إبن خلدون يبقى جامداً لا يتحرك منذ القرن الرابع عشر !! .
مقالات اخرى للكاتب