مقولة ستأخذ طريقها للتاريخ:
(ان لصوص ايام زمان كانوا اصحاب قيم،
فيما لصوص ساسة هذا الزمان..بلا ضمير).
الزمن الأول هو ايام كانت بغداد عاصمة الدنيا في الخلافة العباسية،والزمن الثاني هو ايام صارت بغداد اسوأ واخطر عاصمة بالعالم في عهدها الديمقراطي.في الزمنين كان هنالك لصوص..الأول توثق اعمالهم كتب التاريخ ،والثاني نشهد نحن اعمالهم التي سيوثقها المؤرخون للأجيال. وبما ان اللص هو من يسرق مال الآخرين فان المقارنة هنا ستكون بين من اشهر واكثر من سرق اموال الناس في الزمنين.
تقترن السلطة في تاريخنا العربي بالاستحواذ على الثروة،التي تفرز بالضرورة قلّة من الاغنياء تعيش حياة الرفاهية وكثرة من الفقراء تعيش حياة بائسة.وكانت بغداد قد شهدت زمن الخليفة هارون الرشيد احدى اشد مراحل هذا التباين حدة بين هاتين الطبقتين.كانت هنالك حياة بذخ وترف سفيه ومجون لقلة تمتلك السلطة والثروة والقانون ،وكثرة من معدمين وجياع وعاطلين طحنهم الفقر بسبب انشغال الزعماء والحكام بالملذات و(انهماك السلطان في القصف والعزف واعراضه عن المصالح الدينية والخيرات السياسية) على حد تعبير ابي حيان التوحيدي.
من هذا الجمع الغفير من الجياع والفقراء والمعدمين والمهمشين،ظهرت جماعة اطلق عليهم (العيارون)..والعيار تعني لغويا..الكثير التجوال والطواف الذي يتردد بلا عمل ،ويتصف بالذكاء عادة..غير انهم كانوا يشكّلون مع الشطار واللصوص جماعة منبوذة اجتماعيا..ولهذا فانهم كانوا في صراع مع المجتمع الذي نبذهم، تطور تدريجيا من التمرد عليه الى القيام بالثورة ضد السلطة وكبار الاثرياء..والحصول على حقوقهم الشرعية باساليب غير شرعية..
ومع ان المصادر التاريخية وصفتهم بانهم (غوغاء من السفلة والأوباش والحثالة العامية)فانهم وصفوا ايضا بأنهم كانوا اصحاب قضية سدت في وجوههم السبل المشروعة فلم يجدوا الا اللصوصية والشطارة والعيارة وقطع الطريق سبيلا للتعبير عن انفسهم وقضيتهم..وكانوا في واحد من اساليبهم مثل روبن هود..يسرقون المال من الاغنياء ليوزعوه على الفقراء والمحتاجين...ولهذا وصفوا بانهم (سلطة العدل خارج القانون).
ومع ان العياريّن يذكروننا بالصعاليك زمن الجاهلية من حيث التشابه السيكولوجي والاجتماعي الا انهم كانوا اكثر شأنا وأشد فعلا لاسيما زمن الفتنة بين الأخوين الأمين والمأمون حيث شكلّوا ظاهرة سياسية وعسكرية ووطنية ايضا!.فحين اقتربت جيوش المامون من بغداد عام 196 هجرية،وحاصرتها ورمتها بالمجانيق ثم دخلوها..فقتلوا وهدموا واحرقوا..حصل ان معظم قواد الأمين هربوا ولم يصمد في هذه المعركة الا عامة بغداد (والأوباش والرعاع..اي العيارون)بحسب الطبري..وانهم(العيارون) هم الذين جعلوا قائد جيوش المأمون (طاهر بن الحسين)يعجز عن دخول بغداد في واحدة وصفها المؤرخون بانها من اشرس المعارك بين العرب والعجم.بل انهم استماتوا في الدفاع عن بغداد وظلوا صامدين حتى بعد ان استسلم قائد جيش الامين وصاحب شرطته...ما يعني انهم كانوا اكثر حبا لبغداد من سادتها..وان فقرائها كانوا اكثر تعلّقا بها من اغنيائها..ربما لأن الفقراء اذا احبوا احبوا عن صدق، والأغنياء اذا احبوا..احبوا عن مصلحة!.
والمفارقة ان جند الأمين وجند المأمون شرع كل منهما في تدمير وحرق الجانب الذي اعتصم به خصمه،وكانت النتيجة تدمير بغداد وحرقها وهدمها لأول مرة في تاريخها..وهي الوقعة التي رثى فيها الشعراء بغداد لأول مرة رثاءا مرّا يفيض حسرة على مصيرها..وأن العياريين انفسهم رثوها كما ينقل الدكتور محمد رجب النجار عن الطبري، فيما لم يرثها من حكامها وأغنيائها أحد!
ثمة حقيقة تخص الطبيعة البشرية هي ان الوصول الى السلطة يؤدي الى الاستحواذ على الثروة حتى لو كانت ديمقراطية، وتفرز بالضرورة قلة تعيش حياة الرفاهية وكثرة تعيش حياة بائسة. والمفارقة المخجلة ان العياريين ايام زمان كانوا قوة تخشاها السلطة والاثرياء الفاسدين فيما (عياريي) زمن الديمقراطية لا يملكون سوى التظاهرات والترديد..(نواب الشعب كلهم حراميه)!.
والمفارقة ،اننا حين نقارن حال الامس الغابر من اللصوص بحال اليوم الحاضر من لصوص سياسيين ووزراء ومسؤولين كبار،نجد ان العياريّن كانوا يتحلون بقيم راقية لا يتحلى بها عدد من الذين تولوا المسؤولية ويدعون التقوى.فلقد كان لهؤلاء العيارين عقل مفكر او (فيلسوف) او زعيم اسمه (عثمان الخياط ) يضع لهم الاسس والمباديء والاخلاق التي ينبغي ان يتصف بها اللصوص،منها مقولته:(ما سرقت جارا وان كان عدوا،ولا كريما ،ولا كافأت غادرا بغدره).وكان قد اوصى اصحابه قائلا:(اضمنوا الي ثلاثا اضمن لكم السلامة..لا تسرقوا الجيران واتقوا الحرم ولا تكونوا اكثر من شريك مناصف وان كنتم اولى بما في ايديهم لكذبهم وغشهم وتركهم اخراج الزكاة وجحودهم الودائع).
كانت الوصايا تنفذ والتوجيهات يلتزم بها برغم انها صادرة من رئيس عصابة وليس رئيس حكومة، وان المتلقين لها لصوص وليسوا وزراء!..اليكم هذه الحادثة:
خرج سليمان ،وكان زعيم عصابة، ليلة باصحابه الى دار بعض الصيارفه فاختفوا ،فقال له بعض اصحابه :دعنا نقم على مفارق الطرق لنأخذ من بعض المارّة نفقة يومنا،فقال:على ان لا تبطشوا بهم ،فقالوا:وهل يفعل ذلك الا الجبان؟.فبينما هم كذلك مرّ شاب ذو هيئة فسلّم عليهم فردّ عليه بعضهم السلام،فقام اليه بعضهم فقال رئيسهم:دعوه فانه سلّم ليسلم واجابه بعضكم فصار له ذمة بذلك.قالوا فنخلي سبيله،قال:اخاف عليه غيركم..ليذهب معه ثلاثة يوصلونه الى منزله..ففعلوا.فلما وصل دفع لهم مالا وقال:لأحوطنّكم بمالي وجاهي لما عاملتموني به.فلما عادوا بالدراهم قال رئيسهم:هذا اقبح من الأول ..تأخذون مالا على قضاء الذمم والوفاء بالعهد ،لا ابرح او تردوا اليه المال،فقالوا:لقد افتضحنا بالصبح،فقال:لئن نفتضح بالصبح خير من تضييع الذمام ،وأضاف:ما خنت ولا كذبت منذ تفتيت.
لاحظ ما قاله في عبارته الاخيرة..انه لم يعد يخون او يكذب منذ ان صار من اللصوص الفتيان ..ذلك انهم كانوا يسرقون كبار الاثرياء والبخلاء ومن لم يخرج زكاة او يغش او يكذب في معاملات الناس..وانها في رأيهم استرداد لمال الله الذي ينبغي ان يستعيدوه منهم عنوة واغتصابا..وتحقيق العدل خارج القانون.
قارنوا بالله عليكم بين قيم هؤلاء اللصوص وبين قيم لصوص وصفتهم المرجعية الموقرة بأنهم (حيتان).فالعيارون كانوا يسرقون الاثرياء،فيما لصوص وحيتان هذا الزمان يسرقون قوت الناس الذي ائتمنوا عليه.واولئك كانوا يخرجون الزكاة من المال الذي يسرقونه رغم قلته،وهؤلاء لا يزكوه ولا يخمّسوه بمن فيهم معممون واصحاب لحى.واولئك كانوا يوزعون المال المسروق على المحتاجين من ابناء شعبهم،وهؤلاء يسرقون مال شعبهم ويودعونه في الخارج ،لاسيما مزودجي الجنسية بينهم.واولئك كانوا يستحون ويخجلون ان سرق احدهم فقيرا،فيما هولاء مسحوا آخر نقطة حياء من على جبينهم..وحولوا الفساد الى شطارة بعد ان كان خزيا وعارا. واولئك ما كان احد منهم يتستر على سارق ، فيما رئيس حكومة هؤلاء تستر عليهم وقال ذلك جهارا:(لديّ ملفات فساد لو اني كشفتها لأنقلب عاليها سافلها).
التساؤل الأهم:هل سيفتح الدكتور حيدر العبادي تلك الملفات ويقلب عاليها سافلها ويخلّص الوطن والناس من لصوص ساسة هذا الزمان؟!
سننتظر..ونمني النفس بما يعزّ هيبة الحاكم ويعيد للضمير اعتباره الاخلاقي.