عندما تتكلم كثيرا، يظهر مدى التماسك أو الضياع في خطابك، وعندما تزداد التحديات من حولك، تنكشف قدراتك ويتم التعرف على مهاراتك، وعندما تدخل حقلا مليئا بالألغام والأشواك السياسية، يعرف القريبون والبعيدون عنك حجم الاتساق أو التناقض في حديثك.
هذه القواعد ربما تنطبق جميعها على رجب طيب أردوغان رئيس تركيا، فخطابه الذي صال وجال فيه على قضايا عدة، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الأربعاء الماضي، وبدا حريصا على أن يقذف “كرسي في الكلوب أو المصباح” لتخريب الفرح، كما نقول في مصر، جعله يستحق بامتياز أن يطلق عليه وصف “المتناقض”.
في الوقت الذي طلب فيه- على عجل- وزير خارجيته موعدا للقاء وزير خارجية مصر، حوى خطاب أردوغان كلمات، عفى عنها الزمن، من نوعية “الانقلاب”، لوصف النظام الحاكم في مصر، وهو ما وضعه في تناقض فاضح، فإذا كان النظام الحالي في مصر انقلب على الديمقراطية ووأد الحريات، كما تزعم، فلماذا كان وزير خارجيتك حريصا على لقاء وزير خارجية “الانقلاب”؟ وإذا كانت القيادة المصرية غير مؤثرة إقليميا، فلماذا أرسلت إشارات للقاهرة مؤخرا، بشأن ضرورة البحث عن محور إقليمي، لمواجهة المخططات الأميركية في المنطقة، حسب كلام مصدر دبلوماسي لي قبل أيام؟
تناقضات أردوغان لا تقف عند أعتاب مصر، بل تمتد إلى كل القضايا التي تتلامس معها أنقرة تقريبا، فتركيا تريد أن تكون لاعبا مهما في التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب الذي يقوم به تنظيم “داعش” في كل من العراق وسوريا، وفي الوقت نفسه متهمة بقوة أنها أحد داعمي هذا التنظيم، والدليل الإفراج عن عشرات من مواطنيها بلا فدية أو مقابل، ولم يعلم أحد حتى الآن تفاصيل الصفقة، التي أدت إلى هذا الإفراج.
أردوغان في خطابه أمام الأمم المتحدة صوّر بلاده على أنها ملاذ اللاجئين وجنة المظلومين والفارين من نار بشار الأسد في سوريا، ونسي أن كميات كبيرة من الأسلحة مرت، ولا تزال، تمر عبر حدود بلاده، إلى المتشددين، وتجاهل أن تصوراته وممارساته أحد أهم عوامل تضخم التيار التكفيري من المنطقة، فكيف يستطيع التوفيق بين كونه أحد أسباب تصاعد الأزمة، وفي نفس الوقت باعتباره جزءا من حلها؟
من جهة ثانية، أردوغان خطط منذ فترة لتكون بلاده بوابة أوروبا على كل من الشرق الأدنى والأوسط، وعندما أخفق في الأول، جراء تعاظم مشكلاته في الشرق الأدنى، وانسداد الأفق أمامه، راوده حلم التركيز على الشرق الأوسط، ليس كمفتاح أو معبر لأوروبا، بل كمهيمن عليه، خاصة بعد أن صعد نجم التيار الإسلامي في المنطقة، وتكرس هذا الشعور، عقب اندلاع الأزمة في سوريا، وخروج العراق من المعادلة، وارتباك مصر لفترة، بموجب صعود حلفائه الإخوان (الضعفاء) للحكم، لكن تمكن الرئيس عبد الفتاح السيسي من تعديل الدفة في مصر، شعبيا وديمقراطيا وأمنيا وحتى استراتيجيا، أصاب أردوغان بشيء من الدوار، لأنه كان سببا في إفشال مخططه الخيالي، بأن يصبح خليفة المسلمين الجديد، طبعا قبل أن يعلن عن ذلك منافسه الجديد أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم “داعش”.
تأكد الرئيس التركي من خيبة أمله عمليا، عندما أبهر الرئيس السيسي العالم، بخطابه أمام الأمم المتحدة، وبلقاءات واجتماعات مع عدد كبير من زعماء العالم، وأبرزهم اللقاء التاريخي بين السيسي وباراك أوباما، والذي جعل التحالف الاستراتيجي بين واشنطن والقاهرة يقترب من سابق عهده، من قوة ومتانة، ويبدو أن أردوغان أراد تذكير دول كثيرة في العالم بما كانت تصف به ما حدث في مصر في الثلاثين من يونيو 2013، فتعمد ترديد كلمة “انقلاب”، مع أن العالم سلّمَ بنتائج الانتخابات التي فاز فيها السيسي باكتساح، وأيّدوا خطواته لاستكمال خطة خارطة الطريق.
الطريقة التي تعاملت بها مصر، تقول إنها واثقة من قدراتها، وعلى دراية بحركات أردوغان المسرحية، فقد اكتفت بإلغاء لقاء وزير خارجيتها مع نظيره التركي، وتعمد الرئيس السيسي تجاهل الموقف التركي، وهنا لا يجب أن يغيب عن بالنا موقف أردوغان قبل نحو خمس سنوات، عندما هاجم شيمون بيريز رئيس إسرائيل السابق في مؤتمر دافوس، وترك القاعة وخرج بأداء، بدا لكثيرين أنه “تمثيلي” بامتياز، لأن دفاع أردوغان عن القضية الفلسطينية وترك القاعة احتجاجا على كلام بيريز، لم يكن متسقا مع جملة المواقف التركية القريبة من إسرائيل، والتي أضرت بالقضية الفلسطينية.
الواقع أن مصر، تدرك الجانب المتناقض في تصرفات أردوغان، ولا تريد أن ترد له الصاع صاعين سياسيا، وهي قادرة ولديها حزمة من الأوراق والملفات، إذا وظفتها يمكن أن ينسى بموجبها أردوغان خلافه مع مصر، لكن سوف يتضرر منها الشعب التركي، الذي تحرص القيادة المصرية على التفرقة في تعاملها بينه وبين رئيسه، لأن هناك سلسلة من الأواصر الممتدة بين المصريين والأتراك يصعب التضحية بها، على الرغم من تجاوزات أردوغان في حق مصر.
يبقى الانسجام الوحيد حتى الآن في سياسات أردوغان موقفه من الإخوان، وهو موقف لا ينبع من حسابات أيديولوجية، كما يتصور كثيرون، لكن من تقديرات مصلحية بالأساس، باعتبارهم ورقة يمكن أن يضغط بها على مصر، مع أنها فقدت جزءا كبيرا من بريقها، وقريبا سوف تتحول إلى عبء لن يستطيع تحمل تبعاته والتفاخر به كما هو حاصل الآن، يومها سيظهر حتما التناقض في تصرفات أردوغان، لأنه سيكون مضطرا إلى تبني خطاب مزدوج، يلعن فيه الإخوان نهارا، ويمتدحهم ليلا، بعد أن ينتهي مفعول حبوب الشجاعة التي تعاطاها كثيرون للدفاع عن الإخوان.
مقالات اخرى للكاتب