هل تريدون دولة حديثة؟ .. هذا السؤال كنت أطرحه كلما سنحت لي فرصة الحديث مع أحد النواب .. ودائما ما أجد إجابة مبهمة غير واضحة .. كل تجارب الشعوب تعلمنا أن فرض الوصاية على الناس وتوجيههم الوجهة التي يريدها الحاكم أو المسؤول تنتهي إلى تشكيل عصابة تعتاش على القهر والفساد .
لعل أبرز مشاكل نخبنا السياسية ، أنها جميعا تدعي العمل ليل نهار لإقامة الدولة المدنية، بينما تقوض في تصرفاتها العملية كل الأركان الواجب الحفاظ عليها لمثل هذه الدولة ، ولدي نموذج صارخ على هذه الازدواجية ، فقد تابعت، مثل غيري، على صفحات الصحف بعض القرارات التي يصدرها عدد من المسؤولين أو الخطب التي يطلقها العديد من النواب والتي تتناقض مع مواد الدستور، وهي خطب وتعليمات ليست ذات علاقة بعمل الحكومة أو البرلمان بقدر ما تعد تدخلا في الحريات الشخصية للمواطن، هذه الحريات التي نعتقد أن القانون والدستور كفيل بحمايتها.
تطالب الناس بحكومة خدمات فيأتي لهم الساسة بمجلس أعلى ينظم لهم ما يرتدون من ملابس على أمل أن يتبعه مجلس آخر يحدد لهم ما يسمعون ويأكلون، يعلو هتاف الناس بضرورة حكومة كفاءات، فيكون الرد بقرارات من عينة الحشمة في دوائر الدولة وضرورة فصل الطلاب عن الطالبات وإبعاد الخبرات لنوازع طائفية مقيتة.
بعد عشر سنوات من اللغو والخطابات التي انتهت صلاحيتها، نجد أنفسنا وسط مسؤولين يسعون لإغراق حياتنا بكل ما هو مزيف وتأخذنا الحكومة في دهاليز الاختيار بين العمل على تطوير مؤسسات الدولة و إصدار تعليمات للحشمة ومراقبة زي المواطن، تندلع الأسئلة مجددا مع الاشتباك الدائر حاليا حول تراجع مستوى التنمية والتعليم والصناعة والزراعة في العراق، هل نهتم بتحديث المجتمع وتطوير قدرات العاملين في مؤسسات الدولة، أم ننتظر ما تقرره لجان على شاكلة لجنة تطوير المرأة في ما يتعلق بحرمة ارتداء النساء الأحذية الخفيفة!
أكتب هذه المقدمة وأنا اشعر بالاستغراب حين أقرأ التوجيه الذي أصدرته الأمانة العامة لمجلس الوزراء، الذي طالبت فيه بمنع استيراد الملابس والإكسسوارات المخالفة للتقاليد والخادشة للذوق العام، ومتابعة المروجين لها في الأسواق المحلية.
وهو امر مضحك ومثير للسخرية حين يتصور البعض من المسؤولين أنهم ينتمون إلى جماعات تتلقى أوامرها من السماء، وليست أحزابا سياسية تدين بوجودها لأصوات الناخبين ومثير للأسى أن يصر البعض على إشاعة أجواء الحملة الإيمانية التي قاد لواءها الحاج خير الله طلفاح ، ويصر على أهميتها للمواطن وانها يمكن ان تعوضه عن انعدام الخدمات ، والأهم أنها تحميه من شر المفخخات والأحزمة الناسفة التي عجزت الأجهزة الأمنية عن الحد منها.
لقد وعدت الحكومة في برنامجها الذي أعلنته - وشربت عليه الماء في ما بعد - الناس بالرخاء والنماء والعمران، ولم تعدهم بتضييق الحريات وخلق معارك جانبية لا تصب في مصلحة المواطن ، ولكن يبدو أن السراب هو ما ينتظرنا ، وأسأل أصحاب لجنة الوصايا على أزياء الشعب، أين هم من معاناة المرأة التي فقدت زوجها في تفجير إرهابي ؟ ، أين هم من الأرامل والمعوزات ؟ ، ولكن يبدو ان الحكومة تصر على تحويل السخرية إلى واقع على الأرض، ثم تتعامل معها بمنتهى الجدية، وتريد منا أن نتوحد مع قناعاتها البعيدة عن هموم الناس.
في ظل هذه الأوضاع لابد أنكم تحسدون معي رئاسة مجلس الوزراء على قدرتها الخرافية على الانفصال عن الواقع، والتحليق بعيدا عن المنطق، ليطلق القائمون عليها تصريحات من عيّنة " الملابس المخلّة بالآداب العامة".
السادة القائمون على ما يسمى دائرة شؤون المواطنين، أتمنى عليكم ان ترفعوا الأقنعة عن وجوهكم وتعرفوا ماذا يريد العراقيون، وتؤمنوا بأننا تجاوزنا سن الوصاية وأننا أحرار في ديننا ودنيانا والأهم ان تدركوا ان الشعب يحتاج إلى التنمية والاستقرار.. الخبز والحرية.. والمسكن والعمل.. أما الشعب الذي تريدون خنقه بقرارات كوميدية فقد خرج ، ولم يعد منذ ان سقط تمثال قائد الجمع المؤمن .
وقديما قال عمنا الجواهري ردا على حملة طلفاح الإيمانية
نبئتُ انكَ توسعُ الأزياء عتاً واعتسافا
وتقيس بالافتار أردية بحجة أن تنافى
ماذا تنافي، بل وماذا ثمَّ من أمرٍ يُنافى
أترى العفافَ مقاسَ أرديةٍ، ظلمتَ أذاً عفافا
هو في الضمائرِ لا تخاطُ ولا تقصُّ ولا تكافى
من لم يخفْ عقبى الضميرِ ، فمنْ سواهُ لن يخافا..