قد يبدو السؤال للوهلة الأولى غريب وساذج لأن الجواب الذي يتبادر للذهن إن الإمام علي بن الحسين عليه السلام سمي بالسجاد لكثرة عبادته وسجوده وسمي بزين العابدين أيضاً لنفس السبب والكل يعرف ذلك تقريباً ومن لا يعرف يمكنه الاستنتاج بسهولة.
ولكن ليس هذا ما نريد السؤال عنه!
الكثير من الأنبياء عُرفوا بألقاب وصفات معينة والأئمة عليهم السلام عُرفوا بألقاب وصفات أيضاً، وبعيداً عن آلية الوصف ووضع الألقاب لدى الناس والتي قد تكون في الغالب بلا مناسبة وقد تكون غير واقعية وقد تكون مرتبطة بحدثٍ معين لا تتعداه إلى غيره، بعيداً عن كل ذلك نقول إن ألقاب الأئمة عليهم السلام وكذلك كل ما يتعلق بهم لم تكن للصدفة والعشوائية موطئ قدم فيها، وهذا من الثوابت التي ينبغي للكثيرين تفهمها لأن تفهمها يجيب على الكثير من الاسئلة ويحدد مسارات العمل بوضوح.
أما لماذا؟ فلأن مسيرة الإصلاح لا يمكن أن تترك للفوضى والصدف وهم قادة هذه المسيرة.
والثابت الآخر إن مسيرة الاصلاح كما لها خط عام لا تحيد عنه فهي مقسمة إلى مراحل ولكل مرحلة أسسها وأساليب عملها.
فلقب الإمام أو المعصوم بشكل عام يعطي تصور عن الدور الذي سيضطلع به الإمام في فترة إمامته هذا إذا كان قد عُرف بهذا اللقب قبل إمامته أما إذا كان قد عُرف به حال إمامته فهو كاشف عن هذا الدور.
وقد تكشف عملية مراجعة لألقاب المعصومين عن الكثير من ذلك، وقد تعطي المحصلة من كل ألقاب أحد المعصومين-اذا تعددت الالقاب- صورة أكثر وضوح.
فيما يخص الإمام علي بن الحسين عليه السلام الذي عُرف بعدة ألقاب أشهرها زين العابدين والسجاد وذي الثفنات وراهب العرب والبكّاء، وكلها مرتبط بمعنى واحد تقريباً وهو "كثرة العبادة"، حتى إن الإمام السجاد ترك أثراً وبرنامجاً عملياً في هذا المجال أيضاً فيما قد يفسر على إنه خطوة تأكيدية وهو "الصحيفة السجادية".
وفي هذه المرحلة نُعيد صياغة السؤال الذي بدأنا به مقالنا ليصبح بالصورة التالية:
لماذا كان دور اٌلإمام السجاد عليه السلام مرتبط بكثرة العبادة؟
يمكن الإجابة بعدة أجوبة محتملة بعضها قد لا يتعارض مع البعض الآخر:
الإحتمال الأول:
إن سطوة الظلم في ذلك الوقت لم تترك له مجال لأي اسلوب آخر، فإظهار الجانب التعبدي بوضوح يُبعد عن الإمام أنظار السلطة ويعطيه مساحة للتحرك أكثر فهو أسلوب تغطية لا اكثر.
ويرد على هذا الاحتمال إن الإمام السجاد عليه السلام في حالات عدة وخاصة في أيام السبي وما تلاه أظهر نقداً واضحاً وقوياً للسلطة، ويرد عليه أيضاً إن الواقع يفرض نفسه على أساليب العمل والمناهج نعم، ولكن مهمة الإمام تسخير الواقع ومحاولة تجاوزه إذا ما توفرت القاعدة لذلك.
الاحتمال الثاني:
إن الظروف التي أنتجها قبول الناس بالحكم الأموي واستشهاد الإمام الحسين عليه السلام والنصر الظاهري الذي حصل عليه بنو أمية ومنهجهم الهادم للشريعة والمضاد للإصلاح، كل ذلك لا يمكن معادلته إلا عبر طرح نموذج واقعي للعودة لخط الاسلام المحمدي، فكان نموذج زين العابدين هو النموذج الاصلح، نموذج الاستغراق في العبادة إلى حد ظهور الثفنات!
ولعل حادثة الفرزدق الشهيرة أحد الأدلة على انجذاب الناس لهذا النموذج رغم الماكنة الاعلامية والقمع المستمر من السلطة الحاكمة.
الاحتمال الثالث:
قد لا تتفاعل الأمة مع قيادتها الحقيقية وقد تفشل في الكثير من الاختبارات إلى درجةٍ تستحق معها عقوبة تقليل فرص التعاطي مع تلك القيادة ، وهذا التقليل أتخذ صور وأشكال عدة وقد مارسه أكثر من إمام وما عبارات علي عليه السلام "لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن جور إلا علي خاصة" و "ولكن أسففت إذ أسفوا ، وطرت إذ طاروا"، إلا تعبير عن مقدار الألم الذي يستشعره القائد عندما لا تستجيب له الأمة، وبقاءه سلام الله عليه جليس الدار في فترة مهمة من التاريخ يمكن عده نوع من العقوبة للأمة عبر اعتزال القائد فترة من الزمن.
فعندما ينشغل ولي الامة -الإمام السجاد عليه السلام في فترة إمامته- بالعبادة فهو يعبر عن حالة سخطه على الامة ووضعها، ولعل الثفنات والبكاء توقظ ضمير الأمة الذي كان حينها في سبات.
الاحتمال الرابع:
إن العبادة واللجوء لها وللدعاء والبكاء أحد الاساليب التي تفضح السلطة الحاكمة التي أقدمت على ارتكاب أبشع جريمة في التاريخ، فالإمام السجاد عليه السلام بلجوئه لهذا الاسلوب جعلهم في حيرة من أمرهم. فدولة تتسلط باسم الدين لا يمكنها ضمن مستويات معينة أن تعترض على كثرة عبادة أحد وكثرة دعاءه.
فالسجاد عليه السلام بسجوده وعبادته وبكاءه أربك وضع تلك الدولة وعجل في فنائها.
الاحتمال الخامس:
تكامل الأمة يمر بمراحل ويمر بمنعطفات أيضاً تشكل واقع اختباري مهم ، وكل مرحلة مرتبطة بما قبلها وتتأثر به ولا يمكنها الانفصال عنه ، كما لا يمكن تجاهل القادم. فكل مرحلة هي بشكلٍ من الاشكال نتاج لما سبقها ومقدمة لما سيلحقها، بل هي كذلك فعلاً.
فمقتضيات المرحلة التي سبقت إمامة الإمام السجاد عليه السلام ومتطلبات المرحلة التالية هي التي فرضت ظهور إمامته بهذه الصورة بحيث طغى الاهتمام بالجانب العبادي على أكثر صور تفاعلها وتفاعل الناس معها.
فالإمام السجاد مارس هذا الدور لأنه الأليق بمرحلة التكامل المطلوبة ولكونه الأنسب للإصلاح.
ويمكن عد هذا الاحتمال جامع لأغلب ما ورد في الاحتمالات السابقة.
ومن هذه الاحتمالات يمكن أن نفهم ومن خلال لقب الإمام السجاد عليه السلام والذي يعكس صورة عن دوره سلام الله عليه كما قلنا، نفهم مدى خطورة المرحلة التي كانت تعيشها الأمة في تلك الفترة وتداعيات استشهاد الإمام الحسين عليه السلام وتسلط الدولة الأموية ، وكيف وظف الإمام كل ذلك ليحول الهزيمة الظاهرية إلى نصر على كل المستويات.
ويمكن أن نستفيد بعض الدروس من ذلك أيضاً ومنها :
1-كيف نتصرف في ظروف مشابهة أو قريبة الشبه من ذلك.
2-كيف نوظف أضعف الإمكانيات أو ما قد نتصوره كذلك في حياتنا لإنجاز الصواب.
3-صعوبة مهمة الأئمة عليهم السلام ألا وهي إصلاح الأمة وقيادة مسيرة تكاملها وما واجهوا من صعوبات في تحقيق ذلك.
4-إن نسعى لطاعة القيادة الحقيقية للأمة وهي المرجعية الرشيدة ولا نكسل أو نتمرد إلى درجة تضطر القيادة معها إلا اعتزال الأمة أو الاكتفاء بأقل المجزي.
5-للقيادة شروطها وينبغي أن لا نمنح طاعتنا لأحد بعنوان القيادة بدون تحقق تلك الشروط، وكثرة الضجيج حول قيادة وهمية لن يحولها إلى قيادة واقعية ولن يبرء ذمتنا أمام الباري جل شأنه.
وادعو في نهاية كلامي ونحن مقبلون على أيام أربعينية الإمام الحسين عليه السلام إلى الاستفادة من سيرة الإمام السجاد عليه السلام وأسلوب عمله في تفهم دورنا تجاه القضية الحسينية وما مطلوب منا فعلاً بدل إخضاع المسألة لاجتهادات من لا يحق له الاجتهاد وظهور صور للتفاعل أقل ما يُمكن أن يقال بحقها إنها غير شرعية.
السلام على علي بن الحسين السجاد زين العابدين يوم ولد ويوم سبي ويوم مات مسموماً مظلوماً ويوم يبعث حياً.