مات الأديب الناقد القاص اللغوي يوسف نمر ذياب بعد حياة كئيبة شقّها بأسنانه وسط التلال والصخور ، أترعته كؤوساً من البؤس والعبث والآلام ، ليترك خلفه إرثاً من الجراح والذكريات المريرة . وقال لي في أسىً : لقد علّموني لماذا تجدب الصحارى ، فمن يعلّمني لماذا تجدب القلوب ؟!.
وكان يدعوني كلما التقينا لنذهب إلى مقهى قريب من منزله في منطقة الكرادة .. وفجأة والدخان يعمي عيوننا ، انطلقت مني ضحكة طويلة عميقة ، وسألني يوسف : لماذا تضحك ؟ ورويت له مشهد الرجل الوقور الذي يلعب معه ( الدومينو ) وهو يعمد إلى إخفاء ( الدوشش ) ليربح اللعبة ، وسمعته يحلف الأيمان المغلظة أنه لم يخسر غير مرّتين ويعلم علم اليقين أنه خسر ثلاثاً ، ثمّ تعالت الأصوات والضحكات والنكات .. وتبسّم يوسف وأشار بيده نحو الرجل قائلاً : إذا غسلت الكلب في المحيطات السبعة فسوف يخرج منها أكثر قذارة !.
وكان يحكي لي متاعبه في الحياة ، متاعب لا حصر لها ، ويشكو من الأقلام التي سبحت في بحر النفاق ، وما أصاب الحياة الثقافية من قحط ، وما حطَّ على دنيا الأدب من بلاء ، وقد هبط علينا كالطير كتباء وكتاتيب من الصنف العاشر .. ويبدو عليه الغيظ الشديد فأراه ساخطاً على كل شيء .. على الحكومة ، وعلى الشعب ، وعلى الأدباء ، وعلى الصحافة ، وعلى مجتمع يدوس بأقدامه قلوب الضعفاء !.
والدنيا حظوظ وحظوظ وأرزق بلا حساب . وكان يوسف لا يكلً ولا يملّ أن يقول : أنا لا أشكو من شيء في هذه الدنيا إلا من قلّة الأرزاق !.
وفي السنوات الأخيرة كان لا يجد موضوعاً يكتب فيه غير ما يعاني من حياة رتيبة ولم يكن له من خلاص غير يوم الخميس ، يوم انعقاد مجلس آل الشعرياف الأدبي ، إذ يجد متنفساً لما يسمع من آراء ، واتفقنا أنا والأستاذ مدني صالح أن نزوده بأفكار يكتبها ولم ننفذ اتفاقنا . ومازحته قائلاً : إني قرأت للأستاذ عباس محمود العقاد مقالاً يشكو من أنه لم يجد موضوعاً يكتب فيه غير أزمة الخادمات !.
وقال لي يوسف : إنه في أعوام الأربعينات من الألفية الثانية كان طالباً في ثانوية الرمادي للبنين وكان الشاعر بدر شاكر السيّاب أستاذاً فيها ، وهناك كتب السيّاب قصيدته الرائدة في الشعر الحديث ( السوق القديم ) التي استوحاها من أجواء سوق علي السليمان في المدينة . وفي سوق علي السليمان كان القسم الداخلي ، الذي جاءه يوسف من بلدته هيت الشاربة من نهر الفرات عطشاً .
ووجد في الرمادي ما لم يجده في هيت . وجد قريباً من السوق مكتبة يعير صاحبها الكتاب بأربعة فلوس كل ثلاثة أيام ، وكان يرى فيه صورة الجاحظ الذي قيل أنه مات تحت أكداس الكتب .. وفي الرمادي أدمن يوسف التدخين ، وارتبطت ذاكرته بحانوت ذلك ( الهيتاوي ) القابع في دكانه وكان قد باعه بالنسيئة علبة دخان تركية بـ ( 32 ) فلساً ، وبقي يوسف زمناً يسرع الخطى إذا مرّ من أمام دكانه خشية أن يطالبه بدينه الذي لا يستطيع سداده .. وبدأ حياته ممثلاً على مسرح مدرسة هيت ، وفي الصف السادس الابتدائي كتب قصيدة من مائة بيت وأصدر ديوانه ( أباطيل ) ، وضعه الدكتور أحمد مطلوب في ( زنبيل ) ، وكتب القصة وأراني نماذج من قصص بدأ بها تجربته الأدبية ، كانت كلها تتحدث عن خيانة المرأة !.
ويوسف نمر ذياب الذي غفرت له مواقفه مني . عاش سبعة عقود وثلاثة أعوام لا يهمّه صياح الديكة حتى ولو كانوا بحجوم بني البشر !.