بعد أن تفاقم دور تنظيم القاعدة الإرهابية في مواجهة القوات العراقية والقوات الأمريكية بالعراق، وسعيها للهيمنة على منطقة غرب العراق، تمكنت القيادة العسكرية الأمريكية بالعراق توقيع الاتفاق مع العشائر العراقية بتشكيل قوات الصحوات من أبناء العشائر العراقية لتواجه قوات تنظيم القاعدة الإرهابي وتصفية وجودها بالعراق. وقد التزمت الولايات المتحدة دفع رواتب لمنتسبي الصحوات. وقد بلغ تعدادها عام 2012 وقبل البدء بحلها عملياً وتحويلها لمسؤولية العراق 103 ألف مقاتل، في حين بلغ عددها في نهاية العام 2012 بحدود 34 ألف مقاتل، وتحول دفع رواتبهم من الخزينة العراقية.
استطاعت هذه الصحوات وبدعم وتدريب القوات العراقية توجيه ضربات قاسية لقوات القاعدة الإرهابية وإيقاف الكثير من عملياتها الانتحارية والإرهابية ضد القوات الأمريكية والقوات العراقية والمجتمع العراقي. وكان هذا نجاحاً كبيراً للعراق وللمجتمع.
إلا إن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي وحزب الدعوة الذي يترأسه وكذلك التحالف الشيعي وجدوا في قوات الصحوة منافساً طائفياً سنياً لهم ولمواقعهم في السلطة العراقية. وحين تم توقيع الاتفاقية الأمنية مع الإدارة الأمريكية وبدء انسحاب القوات الأمريكية من العراق، تحولت مسؤولية قوات الصحوة إلى الحكومة العراقية وكذلك دفع رواتبهم. فبدأ نوري المالكي بعدم دفع رواتب الكثير من أفراد الصحوات الذين أجبروا على ترك مواقعهم والالتحاق بجماعة داعش التي بدأت تنشط بالعراق في هذه الفترة وتهدد أفراد الصحوات بالقتل وقتلت فعلاً مجموعة غير قليلة منهم. ولهذا السبب تقلص عددهم إلى 34 ألف مقاتل في نهاية العام 2012 وبداية 2013، إلى أن تبخرت قوات الصحوة نهائياً، وهو ما كان يسعى إليه نوري المالكي وحزبه وتحالفه.
إن هذا الموقف الطائفي المخل باستقرار العراق أدى إلى تقوية مواقع تنظيم داعش، وهو الوليد الشرعي للقاعدة، وتعزيز دوره وزيادة تعداده وتعاظم خطره وعدوانيته، خاصة بعد أن رفض المالكي تنفيذ مجموعة من المطالب العادلة لأبناء الأنبار وصلاح الدين وديالى والموصل.
هذه التجربة الغنية في مواجهة قوات الإرهاب الدموية المتطرفة، والتي نشاهد مثلها اليوم في تشكيل قوات أبناء العشائر، التي تكافح مع القوات العراقية والمتطوعين في مواجهة داعش في الأنبار وصلاح الدين، كما ستقاتل بالموصل، يمكن أن تنتكس حين تبدأ الحكومة العراقية و"الحشد الشعبي" بالإخلال بأسس التحالف الوطني وتهميش دور سكان المناطق الغربية ونينوى، أو الإساءة لهم، أو مواصلة اعتقال وتعذيب وقتل المزيد من أبناء هذه المحافظات، بذريعة تعاونهم مع داعش. كما يمكن بعد تحقيق الانتصار والتحرير أن تعود بقايا هذه المنظمات الإرهابية إلى العمل في صفوف المتذمرين والناقمين على سياسات التمييز والتهميش والإقصاء ضدهم. ومن المشكوك فيه جداً أن يتمكن النظام السياسي الطائفي القائم أن يمارس سياسة جديدة ضد التمييز والتهميش والإقصاء، لأن هذه الأحزاب الإسلامية السياسية قائمة على أساس طائفي من حيث المبدأ والواقع العملي، وعلى أساس الانتقام مما لحق بالشيعة من مظلومية في فترة حكم البعث، وكأن أتباع المذهب السني هم المسؤولون عن تلك المظالم التي لم تلحق بالشيعة فحسب، بل وبكل الشعب العراقي.
ما هي السبل لتجنب ذلك ووضع العراق على الجادة السليمة؟ وما هي تلك الجادة السليمة؟
لقد ارتكبت الإدارة الأمريكية بفرض احتلالها على العراق أولاً، وإقامة قاعدة المحاصصة الطائفية والأثني في بنية النظام السياسي الطائفي والأثني بالعراق ثانياً، إذ إنه أسست بذلك لكل الصراعات والنزاعات الدموية اللاحقة والجارية حتى الآن. كما أن الدكتاتور الأهوج نوري المالكي خلف تركة ثقيلة جداً في الصراع الطائفي ونشر الكراهية والأحقاد وتكريس وتوسيع الفساد، وممارسة أنواع التمييز التي أضيفت إلى تركة نظام صدام حسين الاستبدادي الشوفيني. وأكثر الإضافات الجديدة إساءة للدولة والمجتمع تتجلى في وقوع احتلال نينوى ومحافظات غرب وشمال العراق والنزوح والهجرة الواسعتين لبنات وأبناء تلك المحافظات من مسيحيين وإيزيديين وشبك وتركمان ومسلمين عرب وغيرهم، وبشكل خاص ما تعرضن له نساء الإيزيديات من سبي واغتصاب وبيع بالمزاد العلني وفي سوق النخاسة "الإسلامي" السيء الصيت.
إلا إن من تسلم الحكم من بعده، ورغم الوعود التي قطعها على نفسه أمام الشعب، فأنه لم يخط ولو خطوة واحدة حقيقية على طريق الخلاص من النظام والنهج والسياسات الطائفية المقيتة. لقد أخل حيدر العبادي بكل الوعود والعهود والقسم الذي قطعه على نفسه، فهو من قادة النحبة الإسلامية السياسية الطائفية ذاتها التي تسلمت السلطة في أعقاب الاحتلال وتشكيل مجلس الحكم المؤقت، وهو المشارك الفعلي في كل ما واجه ويواجه العراق من مشكلات ومأسي وكوارث خلال السنوات الـ 13 المنصرمة. وبالتالي، فأن مطالب الشعب كانت وستبقى كما كانت عليه في فترة حكم المالكي المعتم، وخاصة في دورته الثانية 2010-2014. فالشرط الأول والرئيس لمنع عودة قوى الإرهاب بمختلف صنوفها إلى العراق يكمن عضوياً بعملية التغيير في طبيعة النظام الطائفي المحاصصي صوب نظام مدني ديمقراطي يعترف بهوية المواطنة العراقية الموحدة والمتساوية، وليس بالهويات الفرعية المتنافسة والمتصارعة والقاتلة. إن الضمانة الوحيدة للخلاص من الصراع الديني والمذهبي يكمن في إقامة دولة مدنية ديمقراطية علمانية ومجتمع مدني ديمقراطي حديث بالعراق، يستند إلى مؤسسات دستورية نزيهة، ودستور ديمقراطي علماني يرفض التمييز بين أتباع القوميات والديانات والمذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسية الوطنية، ويعاقب على ممارسة العنصرية والشوفينية والتمييز الديني والطائفي والتهميش لأي إنسان أو جماعة بالعراق، ويعترف ويمارس حقوق الإنسان وحقوق القوميات وحقوق المرأة كاملة غير منقوصة. إنها القضية الجوهرية والأساسية الأكثر تعقيداً والأكثر تشابكاً داخلياً وإقليمياً ودولياً، والأكثر أهمية للمجتمع العراقي ومستقبل تطور وتقدم أجياله الجديدة ووضع ثرواته في خدمة التنمية الاقتصادية والبشرية، وإعادة إعمار البلاد وتخليصها من كل الرثاثات التي لحقت بها وبالمجتمع والدولة العراقية نتيجة هيمنة القوى السياسية ذات الفكر والممارسة السياسية الرثتين.
كيف الوصول إلى ذلك؟
ندرك جميعاً بأن السياسة علم وفن، وهي لا تخضع للإرادات الذاتية، بل ترتبط بالواقع الموضوعي وخصوصياته وموازين القوى الاجتماعية والسياسية وإمكانيات المجتمع على التغيير المنشود. والسياسة كما هو معروف فن الممكنات والتي لا بد من تشخيصها ليتسنى للمجتمع والعاملين على التغيير استيعابها وقيادة العملية السياسية صوب التغيير.
تؤكد معطيات الواقع الراهن بأن ميزان القوى الاجتماعي والسياسي ما يزال يميل لصالح القوى الحاكمة، ولكنه في حراك مستمر ويسير صوب التغير الملموس، رغم سير العملية ببطء، لصالح القوى والاتجاه المناهض للطائفية السياسية والفساد والعنف ومصادرة سلطات الدولة والهيمنة على المجتمع وإرادته والاستمرار في افقار الفئات الكادحة والمتضررة من وجود هذا النظام السياسي الطائفي والعمل ضد مصالح الشعب.
وعملية التغيير في ميزان القوى لا تنشأ عفوياً ودون عمل الإنسان ذاته وعلى وفق مصالحه المغيبة والمصادرة. فعملية التغيير تفعل على وفق عاملين داخليين اساسيين هما:
العامل الأول: السياسات المناهضة لمصالح الشعب ووحدته والأخطاء الفادحة التي تمارسها وترتكبها النخب الحاكمة بالبلاد، وهي كثيرة جداً، سوف تسرع عملياً من نهاية وجود هذه النخب البائسة فكرياً وسياسياً في الحكم.
العامل الثاني: يرتبط بقدرة القوى المعارضة على تقديم البديل الناضج والواعي والمقنع لما ينبغي عليه القيام به أولاً، ومن ثم مدى قدرتها على الاستفادة من أخطاء وسياسات النظام المناهضة لمصالح الشعب في تعبئة أوسع الجماهير المتضررة من الوضع القائم والراغبة في التغيير ثانياً.
ولا شك في أن أي تغيير حقيقي في ميزان القوى لصالح القوى الديمقراطية واللبرالية العراقية، يمكن أن يضعف إلى حدود بعيدة التدخل الإقليمي في شؤون العراق الداخلية.
إن مهمة تعبئة الجماهير الواسعة تستوجب رؤية انفتاحية على المجتمع كله وعلى كل القوى القادرة على تقديم العون والمشاركة في توعية وتعبئة الجماهير الشعبية لتحقيق التحولات المنشودة، وعلى أفكار هذه القوى ونشاطاتها والتحري عن سبل التعاون والتنسيق معها، سواء أكان هذا التعاون قصير الأمد ولأهداف محددة أو متوسط وبعيد المدى على وفق برامج تلك القوى وأهدافها ومصالحها الملموسة.
وبشكل ملموس نشير إلى أن ما يجري اليوم بالعراق يحتل أهمية استثنائية في عملية ووجهة التغيير اللاحقة، خاصة في مدى استيعاب القوى الفاعلة في الحراك الشعبي المدني والديني لتجارب السنوات المنصرمة، وخاصة منذ أحداث العام 2011 ودور السلطة التنفيذية من حركة الجماهير وضربها بقسوة وضد الدستور، وكذلك التحركات اللاحقة في أعوام 2013 و2015 حتى الوقت الحاضر، في نضالها الراهن من أجل التغيير والإصلاح الجذري.
شهد المجتمع العراقي بين 14/2/-6/5/2011 بروز حركة احتجاجية تضامنية رفع رايتها اليساريون والمدنيون الديمقراطيون واللبراليون العلمانيون وطرحت المهمات الشعبية الأكثر إلحاحاً وضرورة للمجتمع والتي تبلورت في النقاط التالية:
خروج القوات الأمريكية من العراق وإنهاء الاتفاقية الأمنية.
محاربة الفساد الذي عم البلاد ومكافحة المفسدين والتصدي لنهب النفط الخام العراقي.
التصدي لقوى الإرهاب الدموي المنتشر في البلاد وإيقاف نزيف الدم المستمر.
التصدي لمشكلة البطالة المتفاقمة وإيجاد فرص عمل للعاطلين وتحسين مستوى حياة ومعيشة الكادحين وذوي الدخل المحدود والفقراء المتزايد عددهم بالبلاد.
توجيه موارد البلاد صوب التنمية الوطنية الاقتصادية والاجتماعية وإيقاف التفريط بأموال الشعب.
رفض النظام الطائفي والمحاصصة الطائفية.
أطلاق سراح المعتقلين بتهم زائفة، والكف عن الاعتقال غير القانوني وإيقاف التعذيب أثناء التحقيق وفي السجون العراقية.
لم تتحقق هذه المهمات الجوهرية خلال الفترة المنصرمة بل زاد الأمر سوءاً مما استدعى نهوض جديد للحركة المدنية الشعبية تحقق في آب/أغسطس من العام 2015، وهي امتداد طبيعي لحركة 2011. وقد أثرت هذه الحركة الجارية باتجاهات عدة نشير إلى أبرزها فيما يلي:
تحريك المزيد من الجماهير الشعبية وخاصة الفئات الكادحة المرتبطة بالسيد مقتدى الصدر والتي اقترن عملها قبل ذاك بالصراع ضد قوى الاحتلال وبعض القوى الشيعية المشاركة في البيت الشيعي، وخاصة بجناحها العسكري المدعو بجيش المهدي، والذي يسمى اليوم بسرايا السلام. حيث بدأ هذا التيار الديني الشيعي يتحرك باتجاه مطالب المنتسبين إليه والداعمين له والمرتبطين بدور العائلة الديني (تقليد والده ومن ثم تقليده من حيث الفتاوى الدينية لأتباعه). وبدأت مطالبة مقتدى الصدر، وتحت ضغط أتباعه إلى محاربة الفساد ومحاسبة المفسدين والإرهاب وضد المحاصصة الطائفية والحكم الطائفي. وكان هذا الموقف يسجل تحولاً ملموساً في صفوف التيار الصدري (الأحرار) التابع له والممثل في مجلس النواب، إضافة إلى بعض التوجه صوب ضرب بعض الفاسدين من أتباع التيار البارزين في التيار الصدري. ولا شك في أن عمق وسعة وأهمية هذا التحول ستبرز في الفترة الجارية وفي النضال من أجل الدولة المدنية وضد المحاصصة الطائفية والفساد...الخ.
تحريك للحوزة الدينية الشيعية المتمثلة بالسيد علي السيستاني الذي وجد الحوزة في وضع غير مناسب جماهيرياً بسبب تأييده المستمر للأحزاب الإسلامية السياسية المتحالفة في الائتلاف الوطني أو البيت الشيعي، والتي انتشر في صفوفها ليس الفساد والرثاثة فحسب، بل والصراع على السلطة والمال والنفوذ إلى أقصى الحدود وتركت الجماهير تعاني الأمرين، إضافة إلى ما تسببت به من احتلال لمناطق العراق الغربية ونينوى. وبالتالي طالبت الحوزة الدينية الساستانية بتنحية المالكي بشكل غير مباشر فحسب، بل وبمحاربة الفساد والمفسدين وبالدفع صوب الدولة المدنية ولأول مرة في تاريخ السيد علي السيستاني.
اتساع قاعدة النشطاء من المدنيين في الحراك المدني الشعبي والناس المتضررين الذين شعروا بعمق الأزمة التي يعيش تحت وطأتها العراق، والعواقب الوخيمة التي جرها النظام السياسي الطائفي على المجتمع العراقي.
وقد أدركت النخب الإسلامية الحاكمة بأنها لم تعد قادرة على الحكم على وفق السياسات والوسائل أو الأدوات والأساليب السابقة، مما فرض عليها الحديث عن الإصلاح الجزئي، والمقصود الشكلي، لكي تستطيع البقاء في الحكم. ولم يكن تنكيس الرؤوس إلا لتجنب العاصفة، والذى تجلي بالموافقة على تغيير نوري المالكي بحيدر العبادي، وهي الطريقة المثلى لها لتجنب التغيير الجذري الذي بدأت الحركة المدنية الشعبية والجماهير الغاضبة، والمتزايد عدد المشاركين في الاحتجاجات، تفرضه على القوى الحاكمة.
الحلقة الثامنة
قوى التيارين المدني والديني ودورهما في الحراك الشعبي
تشير معطيات الشارع العراقي إلى وجود تيارين فاعلين يساهمان في تحريك المزيد من المثقفين والأوساط الشعبية لصالح عملية التغيير والإصلاح الديمقراطي والتخلص من نظام المحاصصة الطائفية والتمييز والفساد والإرهاب، وهما:
الفكر المدني التنويري الذي تتبناه القوى اليسارية والمدنية واللبرالية الديمقراطية العلمانية. وهو التيار الفكري الفاعل والمتطور تدريجاً والأكثر جذرية، إلا إنه ما يزال لا يمتلك النفوذ والتأثير الواسعين والمنشودين على الشارع العراقي، وعلى قاعدة واسعة من الجماهير الكادحة وفئة المثقفين، رغم وجود التيار الديمقراطي وفعله البارز والمستمر ببغداد وفي جميع محافظات الوسط والجنوب.
الفكر الديني المنفتح نسبياً والمؤثر على نسبة مهمة جداً من كادحي محافظات الوسط والجنوب وبغداد الشيعية والمؤيَد، بهذا القدر أو ذاك، من قوى إيجابية في الأوساط الشعبية السنية، وليس بين المسؤولين السياسيين من أتباع المذهب السني، بسبب رفض التيار الصدري للمحاصصة الطائفية وتأكيده على المواطنة ورفض التمييز ضد السنة. وهذا التيار قد تطور بشكل ملموس منذ العام 2014 حتى الوقت الحاضر.
إن بين هذين التيارين نقاط التقاء سياسية، ونقاط اختلاف فكرية وسياسية في آن واحد. فهما يلتقيان في المرحلة الراهنة في النضال ضد المحاصصة الطائفية، وضد الفساد والهيمنة على السلطات الثلاث، والدفاع عن مصالح الكادحين المنتسبين إلى هذا التيار والمؤيدين له، ومن أجل توفير الخدمات الأساسية، وضد البطالة وتفاقم الفقر وتعاظم نهب خيرات البلاد والمطالبة بإحالة المسؤولين عن احتلال الموصل والفساد المستشري إلى المحاكمة. ولكنهما يختلفان من حيث الفكر ووجهة تطور العراق، والنظام السياسي الذي يراد إقامته. وهو خلاف كبير وجذري دون أدنى شك.
ولكن المرحلة النضالية الراهنة تستوجب اللقاء مع كل المعارضين للطائفية السياسية والمحاصصة، وكل الداعين إلى محاربة الفساد والمطالبين بمعالجة البطالة والفقر، ومنهم قوى التيار الصدري، في النضال الشعبي في الشارع العراقي، واستناداً إلى تلك الأهداف المباشرة. وهذا الموقف المسؤول يتطلب رؤية موضوعية واضحة وملزمة لقوى التيار الديمقراطي والحراك الشعبي المدني بالنسبة لنقاط الاتفاق والاختلاف، لكي لا تذوب الفوارق إلى الحد الذي يمكن أن تفقد القوى الديمقراطية اللبرالية معه استقلالية نضال القوى المدنية في سبيل مجتمع مدني ديمقراطي حديث وعلماني. إن نضال قوى الحراك المدني الشعبي في الشارع العراقي يسمح بلقاء قوى وقواعد التيار الديني الصدري، ويسهم في الدخول بحوارات ونقاشات فكرية وسياسية تسهم في بلورة الكثير من المسائل المهمة لتلك القوى الكادحة والمضطهدة والمهمشة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً والمتضررة بيئياً. والتي يمكن أن تسهم في تطوير قوى التيار الصدري وتدفع بها صوب تبني الدولة المدنية الديمقراطية، وهوية المواطنة المتساوية والموحدة، وفصل الدين عن الدولة، والفصل بين السلطات الثلاث، واستقلال القضاء، بسبب التجارب المريرة التي تعيشها دول منطقة الشرق الأوسط. ومن يتابع نقاشات الشارع العراقي وقوى التيار الديمقراطي يدرك بوجود تحفظات معينة على العمل المشترك في الشارع العراقي مع قوى التيار الصدري، وبخاصة بين جمهرة من الشباب، إذ أن تجارب التحالفات السياسية السابقة وعلى امتداد الفترة التي أعبقت انتصار ثورة تموز 1958، لم تبشر بالخير العميم وغالباً ما انقلب الحلف على الحلفاء. ولهذا فلا بد من أخذ تحفظات الشبيبة بنظر الاعتبار أولاً، والتعلم من تجارب الماضي غير البعيد ثانياً، وعدم الانجرار، مع من يتم التيار الديمقراطي التعاون معه في الشارع، إلى ما يقوم به ذلك الطرف على وفق ما يسعى إليه، والذي يمكن أن يقود على عواقب وخيمة في غير صالح التيار الديمقراطي أو المجتمع أو الحركة المعارضة للنظام السياسي الطائفي ومحاصصاته المذلة. وبهذا الصدد قدم الزميل الدكتور فارس كمال نظمي دراسة غنية وجديدة حول التيار الصدري والحراك الشعبي وآفاق الوضع بالعراق نشرت على صفحات الحوار المتمدن تحت عنوان "لتقارب المدني – الصدري في ساحات الاحتجاج: رؤية نفسية في ديناميات اليساروية الاجتماعية"، في باب الثورات والانتفاضات الجماهيرية، الحوار المتمدن-العدد: 5227 – 18/7 / 2016 "، من المهم الاطلاع عليها ومناقشتها بعلمية وموضوعية لأهمية مثل هذه الدراسات في المرحلة الراهنة، بغض النظر عن مدى اتفاق أو اختلاف القراء معه. فنحن بالعراق بحاجة ماسة على مبادرات في طرح الرؤية المدققة لعملية التغيير وآليات وسبل هذا التغيير الديمقراطي والسلمي المنشود.
أن عملية تغيير النظام السياسي الطائفي القائم عملية نضالية معقدة ومتشابكة وليس بالضرورة قصيرة الأمد، إنها عملية سيرورة وصيرورة نضالية تعتمد على قدرة القوى المناضلة على رفع مستوى وعي الجماهير ودورهم في عملية التغيير التي تعني ممارسة عملية إصلاح جذرية للدولة والمجتمع من جهة، وتستوجب تعبئة أوسع الجماهير للنضال من أجل التغيير من جهة ثانية، إذ أن الدولة والمجتمع قد سقطا منذ عقود في حمى الاستبداد والقهر السياسي والاضطهاد الاجتماعي والفاقة الفكرية والسياسية والبؤس الاقتصادي والاجتماعي والفساد الناهب لخيرات وموارد البلاد، وعانا وما زالا يعانيان من العنصرية والشوفينية والتمييز الديني والمذهبي والطائفية السياسية المقيتة. كما يعاني المجتمع من فساد الدولة بسلطاتها الثلاث وفساد المجتمع ومؤسساته وأغلب أحزابه السياسية. ومثل هذا الوضع لا يمكن أن يخلوا من العنف والاضطهاد والإرهاب الفكري والسياسي والنفسي.
إن التغيير المنشود يستوجب مشاركة جميع القوى المعارضة، إذ لا يمكن لقوة بمفردها وبجماهيرها تحقيق التغيير. ولهذا لا بد أن تلتقي كل القوى المناضلة لتحقيق التعاون في ما بينها استناداً إلى وضع برنامج يمثل الحد الأدنى الممكن الاتفاق عليه، ويتضمن في الوقت نفسه الحد الذي تقرره ظروف العراق وقدرات النضال الشعبي، وليس في ما نتخيله ونرغب به ولا يتجانس أو يتناغم مع الواقع المعاش فعلياً. إن البرنامج المنشود يمكن أن يشمل الجوانب السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والبيئية والنفسية وعلاقات العراق الخارجية، الإقليمية منها والدولية. كما إن البرنامج يفترض أن يتضمن حلولاً واقعية لمشكلة النازحين والمهاجرين الذين زاد عددهم اليوم عن أربعة ملايين إنسان عراقي بالداخل، دع عنك المهاجرين إلى خارج العراق والذين بلغ عددهم الآن أكثر من أربعة ملايين أيضا، وهو في زيادة شهرية مستمرة. إن وضع برنامج مشترك لا يعني بأي حال فقدان التيار الديمقراطي أو الحراك المدني الشعبي لبرنامجه الخاص في التغيير وتطوير العراق وتقدمه. وهذا الموقف يشمل التيار الصدر أيضاً أو أي قوة أخرى تبدي الاستعداد للتعاون والعمل والنضال المرحلي المشترك.
إن هذه العملية تستوجب وعياً لدى المجتمع، بحيث يكون مستعداً على تحمل تبعات التغيير السلمي والديمقراطي للبلاد، التي تقترن اعتيادياً بتعقيدات غير قليلة تحصل أثناء وقوع مثل هذه التحولات الضرورية في المجتمع. ومثل هذا البرنامج يفترض أن تضعه لجنة واسعة وواعية لواقع العراق وإمكانيات وضرورات التغيير والإصلاح الجذري الشامل للدولة والمجتمع. ويفترض أن يتضمن البرنامج تنظيم عودة النازحين والمهجرين قسراً إلى مناطق سكناهم، وتعويضهم ومساعدتهم ليعيدوا بناء مساكنهم وحياتهم الاعتيادية وعودة السلم والاستقرار لهم.
كما يتطلب البرنامج وضع الأسس القانونية الضرورية لإقامة علاقة سليمة بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان العراق وحل كل المشكلات العالقة، سواء بالنسبة للمناطق المتنازع عليها، أم قضية النفط والتنمية أم رواتب البيشمركة...الخ، بعد أن أصبحت العلاقة متدهورة وبلغت حالياً الحضيض.
ويبدو لي بأن هناك مهمة مؤجلة منذ سنوات، وأعني بها إعادة كتابة الدستور العراقي لعام 2005 بما يصحح القضايا غير الديمقراطية والطائفية والمخالفة للأسس الديمقراطية في حياة المجتمع، وبشكل خاص موضوع الدولة المدنية الديمقراطية العلمانية، إضافة إلى تخليصه من المواد التي تعتبر حمالة أوجه ...الخ، وهي كثيرة. إن المجتمع العراقي قادر على التغيير، وهو يعي باستمرار وأكثر فأكثر الحضيض الذي حط به العراق بسبب فكر وسياسات وممارسات القوى والأحزاب الإسلامية السياسية، الشيعية منها والسنية وبعض القوى القومية الشوفينية والضيقة الفق في آن واحد، والتي كانت وما تزال ضد إرادة ومصالح الغالبية العظمى من الشعب العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه واتجاهات الفكرية والسياسية الوطنية والديمقراطية.
مقالات اخرى للكاتب