قبل سبعة عشر عاما بايامها ولياليها ، هبط علي كالملاك ، وانا اقلب امري ذات اليمين وذات الشمال ، من يسلمني ١٥٠٠ من الحجي مع رسالة شفهية تتحمد لي بسلامة الوصول سالما غانما للقامشلي السورية . لم تكن تعنيني كثيرا هوية الرسول ، فالرسالة العملية كانت في حينها اهم منه بكثير وقد بلّغها واحسن التبليغ ، واختتمها بالقول : الحجي يسلم عليك ويگول من توصل لدمشق احنه بخدمتك . واغناني المبلغ عن معرفة الحجي ايضا لاني كنت خارجا توا من زلزال عنيف اهداه لي صراع الاخوة الاعداء في اربيل عندما استعان الكردي مسعود بجيش صدام العربي على الكردي جلال فبطش به بطش عزيز مقتدر وصارت بالقنادر حشاكم . يومها احسست باهميتي ورحت ارسم سيناريوهات استقبال حافل على السجاد الاحمر عندما تطأ قدمي اليمنى جلق الشام ، ورحت اقارن نفسي بنجوم ومشاهير يعرفهم الناس ولا يعرفون الناس ولا ينقصني الا الفيسبوك انذاك . و سرعان ما انهارت القصص النرجسية واحلام العصافير التي صنعها الخيال الخصب ، ووجدتني وسط "الحجيرة" اسأل العراقيين عن الحجي الذي انقذني من ذل السؤال وضمن لي تكاليف السفر وشراء ما يسد العورة من كسوة . بعد صلاة العشاء استنفرت كل ما في قاموسي من مفردات العرفان بالجميل على رأس الحجي متعهدا له باعادة المبلغ وربما مع الارباح المترتبة عند التمكن و السعة . ويبدو ان الرجل كان يائسا من تنفيذ وعدي فاكتفى بعبارة : الله كريم ، مضيفا ان جريدة "الموقف" التي كان يرأسها وهي لسان حال الحزب في دمشق سترحب بكتاباتي فشكرته مرة اخرى على العرض المغري . وتوطدت العلاقة مع الحجي يوما بعد يوم واصبحت بزمن قياسي واحدا من خمسة شعراء ادعى في كل مناسبة ادبية وغير ادبية ، و اشهد الله على قولي انني لم المس من الرجل الا التواضع الجم وعفة اللسان و نقاء الاردان والبساطة حد التقشف في الحياة . حتى ان الصديق الكبير المفكر حسن العلوي الذي لم يسلم من لسانه السليط بشر او مدر كان يتجنب المس بالرجل ما استطاع الى ذلك سبيلا . وكنت عن كثب اراقب ثقة علية القوم به بدءا من المرجع الراحل محمد حسين فضل الله و الشيخ الوائلي "رحمهما الله" والسيد الغريفي ، الى آخرين لا يسع المقال ذكرهم . قبل خمس عشرة سنة بالضبط ، حشرت الـ ١٥٠٠ في جيبي واتخذت مكانا قصيا متربصا للحجي في "الحيدرية" القديمة في حي السيدة زينب بدمشق : حجي انت تطلبني ١٥٠٠ وقد مكنني الله من دفعها في آخر يوم ... فجاء الرد : تصدقْ بها نيابة عني وعنك عسى الله ان يدفع عنك وعن عائلتك البلاء في رحلتك الشاقة الى العم سام . ففعلت . وكان آخر لقاء . حينها لا انا ولا الحجي كان بامكانه ان يرى مترا واحدا ابعد من انفه . اليوم يتربع هو على اخطر منصب في العراق ويتبوأ اصعب مسؤولية هي اشبه بالمحرقة . لو انني اعرف انه من اهل الدنيا فقط لما ذكرته بكل هذا الحرص على ابناء جلدته ممن يعرف وممن لا يعرف ، اما وانني على يقين من ايمانه بجزاء الاخرة وجليل وقوع المكاره فيها وهو بلاء - لا شك - تطول مدته فاراني مضطرا الى تذكيره بان صفاء السريرة وعفة اللسان ونقاء الاردان شيء ، و ادارة بلد معقد يسقط فيه يوميا اكثر من خمسين بريئا شيء اخر . و اني لادعوه لأن ينفذ بجلده وينقذ دينه من هذا الاختبار المرير مثلما انقذ ماء وجهي من ازمة خانقة بالف و خمسمئة ليرة سورية ، فهذا المعمعان العقيم ليس له آخر ، وليس ثمة ما يستحق الحساب العسير عليه يوم غد حيث يفر المرء من اخيه . سيدي ابا اسراء ... هذا ماء آجن ولقمة يغص بها آكلها و اذا لم تكن انت مسؤولا عن حماية هؤلاء المگاريد المتساقطين يوميا كاوراق الخريف فمن هو المسؤول ؟ ان تدرك نفسك اليوم اهون عليك من ان ترجىء ذلك الى يوم غد الذي قد لا تدركه ، فلا تركن الى مستشاريك فليس فيهم الناصح المؤتمن . ولات حين مندم .
مقالات اخرى للكاتب