كم يشبهون تماثيل أجدادهم، كم عيونهم الفاغرة من شدّة التحديق في دواخلهم تناظر عيون تماثيل البازلت والطين المتسعةُ بعمقٍ من شدّة التحديق في المجهول، جُبلوا من الطين الخلاق الذي تُرك تحت شمس الشموس طويلاً ليكون في متناولهم.
إنها أور التي نُطق فيها لأول مرة لفظ "الله" وأنشئت فيها أول عتبة تصل الماء والطين بالسماء، زقورات الغيب، لوائح القوانين، بداية كلّ العلوم التي نعرفها اليوم، طفولة الإنسانية، أول قصيدة، أول ملحمة، أول ضربة مطرقة على رأس العالم الذي نطق بالسومرية، أول حرفٍ خُطّ لتبتدئ بعدها المسيرة البشرية الكبرى التي انتهتْ بالكومبيوتر لم يزل يحمل الحرف نفسه: اختراعنا الكونيّ الأنفس.
أور هي العراق، ولو قلت هي العالم لما أخطأت، كلّ من يولد هنا له قدم ثابتة في الطين وأخرى في أرض لم تسمّ بعدُ، في غيب الغيوب الذي اخترع تصانيف المداولات مع إلهةٍ غامضين.
الناصرية رئة ثقافة العراق التي تتنفس بها، فلو شطّ بنا خيال أسود وافترضنا أن الناصرية لم تكنْ، فما الذي سيبقى من الشعر، الغناء، الألم المقطّر في أصوات ليست كالأصوات، الحناجر التي تجاوزت نفسها وهي تقلّد صوت تموّج الماء على الهور، أين سنجد القلب المحزون الذي يمسّ كلَّ شيء فيغدو كلُّ شيء يقطر سحراً وعذوبة؟
حضارة العراق وثقافته مدينة لهذه المدينة بأنفس مقتنياتها، ففيها وبفضلها صار للأدب العراقيّ تلك العلامة الراسخة على الارتباط بالمادة: ماء وطين واتساع رؤية، وارتباط أشدّ وثاقة بالأسطورة، العصر الذهبيّ للأغنية العراقية للناصرية فيه حصة لا أحد يجادل فيها، والشعر الذي طلع منها هو شعر الأرض التي لها عيون كثيرة ترصد السماء.
في حوار لي مع عباس بيضون أجرى مقارنة بين الشعر اللبنانيّ المكتنف بذهنية واضحة، والشعر العراقيّ "المنغرس في الطين" بتعبيره، مبيناً تعاطفه مع النموذج العراقيّ، وقربه هو شخصياً منه، وأدركت بعد كلامه ان هذا الارتباط بالمادة هو بعض مما ورثناه من أجدادنا السومريين حيث لم يكن فاصل واضح بين الطبيعة والفكر، وحيث الكتابة خلقٌ، أشبه شيء بعمل النحات، قديماً كان أهل الناصرية كلهم نحاتين، كانوا يعملون تماثيل شبيهة بهيئاتهم ويتركونها أمام الإله ذاهبين إلى العمل أو شؤونهم الخاصة، واليوم كل شعراء الناصرية وكتابها نحاتون أيضاً، يجبلون كلماتهم كما يجبل طين حرّي، وفي نصوصهم آثار أصابعم وأنفاسهم لم تزل عالقة في ثنايا الكلمات.