للذين ينشرون صور بعض النواب وهم يصطادون الناخب ببطانية أو مدفأة نفطية.. أو يحثون الخطى برحلة سمر إلى شارع المتنبي، أو الاشتراك بحملة " صورني وآني ما أدري".. ما رأيهم في الحملة الرسمية التي يشرف عليها رئيس مجلس الوزراء لمخاطبة احتياجات الفقراء.. ماذا يقولون عن هذا المزاد الذي يبث على الهواء مباشرة، وفيه يقايض السيد المالكي عوز الناس ومعاناتهم، بأنهار من العسل وبمدن تضاهي دبي وأبوظبي؟!
إنه المنطق ذاته: مقايضة الضعفاء على قيم العدالة الاجتماعية والرفاهية والاستقرار والأمان والحرية، بجسر من الوعود التي سرعان ما تتبخر بعد أن يتشكل البرلمان ويجلس البعض على كراسي الوزارة، منطق يعتمد على أحدث وأقوى آلات وبرامج العشوائية المنظمة فى كل أمور حياتنا، من السياسة إلى التعليم، حتى المجاري!
بالأمس باغتنا مولانا رئيس مجلس الوزراء بمفردات مبتكرة، مزيدة ومنقحة، من قاموسه الذي لا ينضب أبدا بما فيه من طرائف وعجائب، حيث قال: "إن من حق أي مواطن أن يحصل على سكن في العراق".
في كل خطاب للمالكي أسال نفسي لماذا تزدهر مدن العالم، فيما تتراجع أقضية ونواحي تغفو بيوتها العتيقة على بحيرات من الثروة؟ لأن أحداً لم يقرأ ذلك التعريف الجميل الذي وضعه صاحب التاريخ الحميم للإنسانية، تيودور زيلدن " أما الوطن فهو المسكن الذي لا يشترط فيه تفضيل مصالح الساسة على مصالح الناس … لا وطن في حالة النفاق والرياء..".
سيقول البعض كلاما كثيرا عن الإرهاب وتعطيل عملية البناء والفوضى السياسية، وهذا واقع، غير أن المسألة كما يبدو من مفردات الحالة الثورية التي ظهر بها السيد رئيس مجلس الوزراء خلال الأسابيع الماضية، تنبئ بأن جهدًا مراوغا يبذل لإعادة إنتاج نظرية جديدة تتحول فيها حقوق الناس إلى " مِنّة " يتفضل بها المسؤول، وأن هناك أصواتا تنشط هذه الأيام في محاولة تثبيت نغمة " الدفاع عن حقوق الفقراء "، في الوقت الذي يعلم الجميع أن هؤلاء أول من سلب من فقراء بغداد والبصرة والأنبار وصلاح الدين والناصرية، حقهم في العيش بكرامة وطمأنينة، والأهم حقهم في التمتع بثروات بلادهم.
بالأمس وأنا أتطلع إلى وجوه فقراء البصرة، لم أرَ سوى علائم الأسى والقهر، وجوه تخاف من الغد، فيما على مقربة منهم مدن تقطع المسافات من عصر إلى عصر، في قطار مذهب اسمه الاستقرار والعمران، ولا يشبه الاستقرار سوى نفوس مسؤولين قرروا ألا يسمحوا للفقر أن يبقى مقيماً في البيوت والشوارع.
طالما أُسأل: لماذا تكتب بإعجاب عن مدن مثل دبي وسنغافورة وكوالالمبور، وعن خلطة الرئيس البرازيلي السحرية التي حول فيها 160 مليون إنسان من الفقر المدقع إلى الرفاهية الاجتماعية وفي حدود ثماني سنوات فقط، لأن هناك ما يكتب عنه؟ تأملوا حياتنا، فعماذا نكتب؟ تأملوا معي السذاجة السياسية وغياب العدل والقانون، ورائحة الكذب التي تخرج من أفواه المسؤولين، عماذا نكتب؟ عن النجاح الأمني الذي حققته جماعة "ما ننطيها"؟! عن الذين يصرون على أن يحققوا لهم ولأهلهم كل شيء، ولم يحققوا أي شيء آخر للوطن؟ عن الدولة التي تخطف فيها المليارات في مشاريع فاشلة؟
على مرمى حجر من البصرة أغنى مدن العالم، تستقر مدينة دبي حيث يسابق حكامها العالم في التنمية والإعمار والازدهار.. أنظر إلى وجه المالكي يتحدث عن الإعمار وبناء البصرة الذي تأخر حسب قوله، وأتابع الأنباء التي تحدثنا عن تفوق حكام دبي على أنفسهم، وهم يضعون مدينتهم على خارطة المدن الأولى في العالم، التي تفوز بتضييف معرض "إكسبو 2020" تحت شعار "صنع المستقبل وتواصل العقول."
ليس خبراً عادياً، للمدينة التي كانت حتى عقود قليلة، مجرد ميناء صغير يبحث صيادوه عن العيش والرزق في البحر، واليوم يأتي إليها ويمرّ بها ملايين الزوار، وليس فيها نهر ولا جبل، ولا فيها دجلة أو الجنائن المعلقة وأور.
يكتب مهاتير محمد في مذكراته "لا تنمية من دون صدق النوايا. ولا ازدهار في خداع الناس بوعود مزيفة، ولامستقبل لحاكم يقايض شعبه على رفاهيتهم وحقوقهم".
مقالات اخرى للكاتب