هناك إشكاليّة كبرى يعيشها مثقفينا في الوقت الحاضر وهذه الإشكاليّة جعلتهم ينطوون على أنفسهم ، ويعزفون عن أي تثقيف اجتماعي ؛ متصورين أنهم فوق مستوى الجميع من العوام ولا يليق بهم النزول إلى مستوى الآخرين ، فهذه الإشكاليّة جعلت المثقف يعزف عن كل ما يجري على ارض الواقع وينظر من برجه العاجي بروح التعالي والتكبر والغرور على الأخر ، وهذا نتيجة الفهم الخاطئ لمصطلح المثقف فلو أردنا أن نستفهم من هو المثقف على مر العصور لوجدناه هو ذو العقل الراجح الذي يتعامل مع الجميع وفق مستويات عقولهم أي أنه يكون واقعياً يفهم العالم على وضعه ويتعامل معه ويظهر علمه وفلسفته اتجاه العالم ويضمر ما هو صعب الفهم على الجاهل ، فسئل عالم الأمة عبد الله بن عباس ما العلم فقال : ثلثه فطنة وثلثيه تغافل ، والتغافل هنا هو معرفة الشيء وعدم البوح به أي عدم التفلسف والتمنطق على العوام المحدودي الفهم ، أما المثقف العراقيّ اليوم عندنا هو ا لذي يراد من المجتمع أن يتعامل معه وفق عقله هو وأقصد بذلك لا يتعامل المثقف إلا مع الذين من شاكلته الذين يظن بهم مثقفين هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى يرى الكثير من الناس أنفسهم مثقفين نتيجة فهمهم بعلم واحد وتجاهلهم باقي العلوم فهذه المغالطة يعيشها كثير من الناس فيظنون أنفسهم مثقفين وهم حقيقة الأمر جهلاء وهذا النوع كثير ما نجده عند الأكاديميين وذوي التحصيل الدراسي فعندما يقول أنا دكتور أو أنا حامل بكالوريوس يتصور نفسه مثقف عالم بكل شيء وينعزل عن كل شيء وهذا ما جعل أكثر الأكاديميين يتنصلوا عن مهامهم الحقيقة ولا ينزلون إلى مستوى الناس . إن الثقافة كما عرفها الجاحظ المتوفى 255هـ ((هي الأخذ من كل علم بطرفٍ )) أما الذين يحسبون أنفسهم مثقفو العصر فهم جهلاء العصر لا يفقهوا من ضروب الثقافة بشيء ، فالثقافة التي نفهمها مصطلح متعدد الأفاق ومتوسع الرؤى ويمكن أن نعرفه بهذا التعريف الموجز ((هو معرفة بعض الشيء عن كل شيء)) وهذا التعريف يتفق إلى حدٍ كبير مع قول الجاحظ أما أولئك الذين يحسبون أنفسهم على هذه الشريحة فهم جهلاء ؛ لأنهم يدركون مفاتيح علماً واحداً ويجهلون باقي العلوم وكما قال فيهم أبو نؤاس : (( فقلْ لمن يدعي في العلمِ فلسفةٍ ... عرفتَ شيئاً وغابت عنك أشياءُ )) ، فالراشد هو الذي له بكل علم شيء ويمتلك رجاحة العقل والمنطق فيأخذ من علم السياسة والفكر والدين والفقه والحلم وإيجاد التعامل مع الأخر إضافة إلى النكتة والسخرية التي تعد من باب الثقافة ؛ لأنها تعبر عن نقيض الواقع المر ، فالمثقف هو الذي ينفتح على الجميع من الناس لا ينغلق على نفسه ويخزن علمه بداخله فعندما ينغلق يركبه الغرور فنعت الرسول –ص- المثقف المغرور بقوله : لا يزالَ المرء عالماً إذ يقول لا أعلمُ ... فإن قال قد علمت فقد جهل ، ونجد أغلب المثقفين الحقيقيين هم من جالس الناس وعبر عن همومهم وأراهم ، فسئل ماوسيتونك لماذا تكتب بهذا الأسلوب البسيط فقال حتى يفهمني الكل من البسطاء والعمال والفلاحين أما عالمنا د. علي الوردي فلا يخفى على أحد كيف كان يجالس عامة الناس ويعبر عنهم وعبر عن جميع الناس من الفيلسوف إلى ( المطيرجي ) فهذه الثقافة البساطة والانفتاح والمجالسة والمناقشة مع الجميع كل حسب عقله لا الانعزال والغرور والتكبر .
مقالات اخرى للكاتب