تتشّكل حياة الإنسان من أشياء صغيره ، بل مُتناهيه في ألصِغر. إبتداءً من نُطفه وإنتهاءً بالكِبَر ، وأحياناً بالهرَم ... بيد إننا نخطئ بالقول إن حياة الانسان واحده . مَسطره ، بدايتها هنا، ونهايتها هناك.
لا ، ليس كذلك . حياة الانسان ، إنما هي حياة مُعاصريه ، هي حياته ، بقدر ماهي حياة الاخرين. لذا من حق هؤلاء الذين غادرونا الان أو قبل ذلك بكثير أو بقليل أن نتذكرهم ، أن نكتبُ عنهم .
هم أحياء بإستعادتنا ذكراهم ، بإستعادتنا مآثرهم ، مواقفهم، أفراحهم وأحزانهم ، أخطائهم ونقاط ضعفهم . إننا نرتكب خطيئه عندما لانفعل ذلك . هُم ... أولئك الذين رحلوا عنا بإنتظار ذلك. نعم كانت لديهم ، كما لدينا ، نقاط ضعف وسفسطه ، وكانت لديهم عيوب إنسانيه ، ولكن كان لديهم بالاضافه الى ذلك ، بل وفوق ذلك سمو في الخُلق ، وإرتقاء في فهم معنى الحياة ، لهذا رحلوا قبل الاوان.
إن قيمة العُمر مايُكتسب فيه ، هذا ماأشارَ لنا به محي الدين بن عربي .
إنني أبتدأ بذكر واحد من هؤلاء : محمد فؤاد هادي
وُِلدَ عام 1949 في البصره في عائله كثيرة العدد تتكون من الحاج هادي ، الوالد الطيب ،الوديع والحنون ووالدتهُ ذات الجمال ألموغِل في فسيفسائه وثلاث بنات واربع أولاد كان محمد فؤاد أكبرهم . وعُرفت العائله بالغِنى . إذ كان والده وعمّهُ يملكان محلاً كبيراً لبيع الاواني المنزليه - في بداية سوق المغايز أو الهنود في العشار ـ ، ومخبزه كبيره ومحل لبيع الحلويات - في الركن المحاذي لموقف التاكسيات المتوجهه الى أبي الخصيب ، في حينها - . كانت هذه المخبزه هي المَلاذ المؤكد لكل من يريد تذوق أحلى المُعجِنات البصريه بل والحلوى العربيه والفارسيه على إختلاف نكهاتها ومذاقاتها .
ويمكن تصور مدى عمق العلاقات العائليه بين الابوين ، الاخوين ، في أنهما بَنِيا بيتيين كبيرين ، ولكن متجاوريين الحائط للحائط ، في محلة أبو الحسن في البصره .
أكمل محمد فؤاد الدراسه الاعداديه - القسم العلمى- في ثانوية البصره ثم إلتحقَ بجامعتها
- هيئة القانون والاقتصاد - في العام الدراسي 1967 - 1968 .
ومنذُ السنةِ الاولى في الجامعه إنضمَّ محمد فؤاد ، أو فؤاد كما كنا نُناديه إختصاراً ، إلى عضوية إتحاد الطلبه العام ، وهو كما معروف الواجهه الغير حزبيه للحزب الشيوعي العراقي ، وفي بداية عام 1968 ، إنضمّ كمرشح إلى عضوية الحزب . وبعد بضعة أشهر كانت قد تشكلت أول لجنه طلابيه للحزب بشكل موسع في البصره ، ضمت رفاق من مختلف كليات الجامعه . في ذلك الوقت كان فؤاد عضواً في لجنه قاعديه ، إلا انهُ مالُبث ان تم تقديمه الى عضوية اللجنه الطلابيه في بداية العام الدراسي التالي ، وقد كان المشرف على عملها في ذلك الوقت الشهيد محمد جواد البطاط ـ أبو زيتون ـ .
أتذكر ذلك ألمساء الشتوي حين إجتمعت اللجنه الطلابيه في أحد بيوت البصره يعود الى عائلة (كمال ) أحد أعضائها ، وكان ذلك أول لقاء لنا مع المرحوم طيب الذكر أنور طه ـ أبو عادل ـ ، الذي حضر كمشرف على الاجتماع .
لقد تحول بيت فؤاد ذي الطابقين بمرور الوقت إلى بيت حزبي بكل معنى الكلمه ، وبالطبع كان بعيداً عن أنظار أجهزة الامن التي لم تكن تتصور أن أولاد الاغنياء يمكن أن يكونوا شيوعيين ، وزار هذا البيت عدد من أعضاء اللجنه المركزيه والمكتب السياسي أثناء زياراتهم الإشرافيه على تنظيمات المنطقه الجنوبيه .
شهدت تلك الفترات نهوضاً جماهيرياً عارماً للحزب الشيوعي ومنظماته المهنيه ، حيث سرعان ماتشكلت تنظيمات الشبيبه والنساء إلى جانب الطلبه ، بحيث بلغت عضويتها في محافظة البصره وحدها الالاف . وتم إصدار نشره دوريه متنوعه حملت إسم ـ السباع ـ تيمناً بالمؤتمر الطلابى الشهير الذي إنعقد في ساحة السباع في بغداد عام 1948، وطُبعت هذه الدوريه بآلاف النسخ بآلة إستنساخ رائعه إبتكرها أحد أعضاء الاتحاد واسمهُ ـ سعيد ـ ، وكان خطّاطها طيب الذكر ـ محمد جواد ـ ، وأُخفيت هذه الالة ولشهور عده في بيت فؤاد ، حيث تمت عملية الاستنساخ .
كان ل ـ فؤاد - دوراً مركزياً في قيادة تنظيمات الشبيبه والنساء، وقاد بنجاح أعمال الكونفرنس الثالث لاتحاد الطلبه فرع البصره ، والذي إنعقد مثل سابقهِ في ضيافة وتحت حراسة الفلاحين الشيوعيين في إحدى مزارع قضاء ابو الخصيب ، وحضر من بغداد طيب الذكر ـ لؤي أبو التمن ـ مشرفاً .
في الفتره اللاحقه ، ولغاية سفره الى موسكو ، أولاً للتأهيل النظري الحزبي لمدة سنه في المدرسه الحزبيه التابعه للجنه المركزيه للحزب الشيوعي السوفييتي، ومن ثم للدراسه الاكاديميه في جامعة موسكو ، عمل فؤاد في مكتب اللجنه المحليه للحزب الشيوعي في البصره ، وواصلَ عمله الحزبي في موسكو ، عضواً في مكتب لجنة الاتحاد السوفييتي ومسؤولاً عن التنظيم الحزبي للطلبه الشيوعيين العراقيين في جامعة موسكو .
حصل فؤاد على ماجستير في الاقتصاد من جامعة موسكو، ولكنه لم يتوفق للاسف في دراسة الدكتوراه، وبطلب منه سافر الى كردستان العراق للالتحاق بالفصائل المسلحه للحزب الشيوعي في حينها.
أستشهد فؤاد مع بعضٍ من رفاقه وهو يذود دفاعاً عن فصيل من رفيقاته الشيوعيات ضد الهجوم الذي تعرضوا إليه من قبل مقاتلي الحزب الوطني الكردستاني في ـ بشت آشان ـ في الاول من آيار ـ ماي - 1983 .
خلَفّ فؤاد ولداً إسمهُ ـ مراد ـ من زوجته الروسيه.
ومن المؤلم التذكير بمأساة هذه الاسره العراقيه ، حيث أستشهد إبنها البكر محمد فؤاد ، وتوفيَ بصعقه كهربائيه خلال العمل شقيقهُ الاخر ـ حسين هادي ـ في الكويت ، وكان شيوعياً أيضاً ، وفُقدَ الاخ الاصغر ـ حسن هادي ـ خلال الحرب العراقيه الايرانيه . مأساة ، تلو أخرى .
الذكرى الطيبه لك يافؤاد.
مقالات اخرى للكاتب