ما من شك ان هنالك اختلاف جوهري وجذري بين انتفاضات وثورات دول ما يسمى بـ "الربيع العربي"، التي انطلقت شرارتها الأولى من تونس الخضراء بهدف تغيير انظمة الحكم الاستبدادية والديكتاتورية في العالم العربي . فما حدث وجرى في تونس يختلف عما جرى في ليبيا ، وما جرى في ليبيا يختلف عما جري في مصر واليمن والبحرين ، وما يجري في سورية يختلف عما يجري في سائر البلدان العربية ، الا أن التغيير والاصلاح والديمقراطية هي أهداف أساسية ومهمة حقيقية لهذه الثورات ، التي سعت اليها الجماهير الشعبية الواسعة .
لكن للأسف ان النتائج كانت مخيبة للآمال والأحلام ، فلم تحدث التغييرات ولم يتحقق البديل الديمقراطي والحلم الشعبي العربي ، بعد وصول الاسلاميين لسدة الحكم، وهيمنة قوى وجماعات الاسلام السياسي على مقاليد السلطة في مصر وتونس .وقد استفادت هذه القوى في وصولها للحكم من حالة اضعاف وتهميش القوى الوطنية الشعبية والتقدمية والديمقراطية والعلمانية والليبرالية ، واستغلالها منابر المساجد والجوامع لتذويت ونشر الدعوة للمشروع الديني السلفي الاصولي ‘ فضلاً عن السياسة الارهابية التي انتهجتها انظمة القمع الاستبدادية في العالم العربي بحق الأحزاب والقوى الوطنية والديمقراطية والثورية ، وممارسة اجهزتها التعذيب الجسدي والنفسي والقمع الفكري والملاحقة السياسية ضد المثقفين والمناضلين التقدميين، الحالمين بالثورة والتغيير ، والزج بهم في غياهب المعتقلات والسجون . واصبحت هذه السياسة شمولية ونهجاً ثابتاً ادى بالتالي الى انحسار قاعدة الأحزاب والقوى والاوساط التقدمية، ومحاصرة وقمع افكارها التحررية التقدمية ، الداعية الى اجراء التغييرات والاصلاحات الجذرية في المجتمعات العربية ، وتحقيق المطالب الشعبية .
ومن الطبيعي ان تقود الأوضاع الاجتماعية والسياسية المحتدمة والمتفاقمة ، واستشراء الفساد ، وتزايد البطالة والفقر والتخلف والأمية في البلدان العربية ، الى تراكم الاحتقان والغضب الشعبي والانفجار البركاني بصورة احتجاجات وانتفاضات وثورات في الميادين والشوارع والساحات العامة والاحياء الشعبية ، اطلق عليها اسم "ثورات الربيع العربي " ، التي اطاحت بحكم زين العابدين ومبارك والقذافي . وفي حقيقة الامر انه بعد أكثر من عامين ونصف على انطلاق واندلاع هذه الثورات ، ووصول الحركات الاسلاموية الى سدة الحكم عبر آلية الانتخابات بعد سقوط الانظمة ، كحركة النهضة في تونس ، وحركة الاخوان المسلمين وحزب النور السلفي في مصر ، لم يحدث اي تغيير او تحول على ارض الواقع ، ولم تحدث الاصلاحات المطلوبة ، ولم يتحقق التحول الديمقراطي المنشود والمأمول .
لقد رافق هذه الثورات حالة متقدمة من النضج والوعي السياسي الثوري ، الذي بدأ يسود الشارع العربي برمته ، وتجلى في الميادين والساحات والشوارع ، التي ضجت بالشعارات والهتافات المطالبة بغروب وافول الاسلاميين ،الذين تنكروا لوعودهم وشعاراتهم بعد اعتلائهم سدة الحكم ، والمناداة بالحرية والانعتاق في زمن العبودية والاستبداد والتخوين والتكفير والاقصاء .
وفي مصر واجه الاسلاميون ضغوطات شعبية وانتقادات حادة وصارمة ، لانهم لن يأخذوا مطالب باقي مكونات المجتمع المصري بعين الاعتبار ، واخفقوا في ادارة البلاد بفعل سياستهم ونهجههم القمعي واستراتيجيتهم الساعية الى اقامة دولة الخلافة والشريعة الاسلامية ..!. وفي نهاية المطاف تم سحب البساط من تحت اقدامهم ، وأُسقطوا عن الحكم بفضل الفعل الشعبي والاحتجاج الجماهيري الواسع والطوفان الكبير الذي اجتاح مصر ، ودعم الجيش المصري ووقوفه مع ارادة الشعب .
ويكاد النموذج المصري يتكرر في تونس، مهد الانتفاضات والثورات في العالم العربي ، التي يسودها وتعمها اجواء متوترة سياسياً ، بسبب التغييرات السياسية الأخيرة التي شهدتها مصر ، واغتيال المعارض التونسي محمد البراهمي ، أحد قيادات واقطاب اليسار التونسي ، بعد مضي ستة شهور على مقتل المعارض اليساري شكري بلعيد . وفي حين تنشط حركة "تمرد" في تونس ، اقتداء بحركة تمرد المصرية ، التي دعت الى التظاهرات التي ادت الى الاطاحة بالرئيس المعزول محمد مرسي ، وجماعة الاخوان المسلمين التي ينتمي اليها ، وتعمل على جمع التواقيع لاسقاط الحكومة بدعم قوي من قوى المعارضة التونسية ،فان حزب نداء تونس المعارض يدعو الى حل الحكومة التي يقودها اسلاميون وتشكيل حكومة انقاذ وطني .
وفي المقابل هنالك من يستبعد تكرار السيناريو المصري في تونس لعدة فوارق سياسية بين القطرين ، وعدم تدخل الجيش التونسي في السياسة ، بعكس الجيش المصري الذي لم يسقط حكم الاخوان عبر انقلاب عسكري تقليدي يستولي على السلطة ويعلن الأحكام العرفية ، وانما اسقطته الملايين من المصريين على اختلاف مكوناتهم ومشاربهم السياسية والاجتماعية في أكبر استفتاء وقرار شعبي شهده العالم ، وذلك بعد عام من الفشل الذريع لمرسي وجماعته على جميع المستويات والاصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية .
لقد اثبتت الثورات العربية والتجربة العقيمة لجماعات الاسلام السياسي في الحكم ، ان البديل الوحيد لتغيير الواقع العربي الردئ والمهترئ والبائس هو اقامة نظم سياسية ديمقراطية مدنية حديثة وفاعلة ، تقر بالتعددية السياسية والفكرية والتداول السلمي للسلطة ، وتكفل الحقوق والحريات الأساسية لجميع المواطنين ، وتفرز الشراكة السياسية ، وتطلق الحريات ، وترسي دعائم الحرية والعدالة بمفهومها الشامل .
ان الدرس المستتفاد الذي يجب ان نفهمه من الثورات العربية، وما جرى في مصر خاصة ، هو الحركة الثورية الصاعدة في الوطن العربي ،وان فشل تجربة الاسلاميين في الحكم هو نقطة تحول في هذه الثورات والحياة السياسية العربية . والمطلوب الآن هو مواصلة الثورة لأجل احداث النهضة والتغيير في المجتمعات العربية ، والحد من الاستقطاب السياسي والتجييش الطائفي ، وصيانة الاستقرار الأمني ومنع الفوضى الخلاّقة ، والتصدي لمشروع التجزئة والتقسيم الاستعماري الامبريالي . فالنصر والمستقبل دائماً للشعوب الثائرة الطامحة الى الحياة والكرامة الانسانية في ظل الحرية والديمقراطية والدولة المدنية العصرية .