العَهِدُ في اللغة كلمة ترمز الى الذي يتعاهد الأُمور فعندما نقول "عَهِدَ فلانٌ الى فلان عَهِدَ َ عَهْدًا" أي ألقى إليه العهْدَ وأَوصاه بحفظه؛ أما كلمة الصّلح فهي اسم بمعنى المصالحة والتّصالح، خلاف المخاصمة والتّخاصم، حيث يختصّ بإزالة النّفار بين النّاس؛ كما انه معاقدة يرتفع بها النّزاع بين الخصوم ، ويتوصّل بها الى الموافقة بين المختلفين. فهو عقد وضع لرفع المنازعة بعد وقوعها أو قبل ذلك بالتّراضي.
وقد شرع الدين الاسلامي الحنيف دين الرأفة والرحمة وإنقاذ البشرية من الجهالة والضلالة والشرك والتعصب القبلي الأعمى ، شرع الصلح وأكد على الالتزام بالعهود والمواثيق التي مادامت لا تحلل حراماً ولا تحرم حلالاً وإنما يقضي من خلالها على المنازعات والخلافات ويزيل النفاق والفرقة بين صفوف الأمة التي من شأنها ان تشيع الحقد والكراهية في قلوب الناس مما تؤدي الى عواقب غير محمودة وهو ما ينهى عنه الاسلام بشدة.
كما أن الاديان السماوية وكذلك الاعراف الخلقية هي الاخرى قد أكدت على وجوب التزام الاشخاص بالمواثيق والشروط والوعود التي يطلقونها على أنفسهم راغبين مختارين واعتبروها من أدق المقاييس التي توزن بها شخصية الرجال. فما الانسانية انسان معني يعطي الشرط من نفسه، الا وانه ليعلم ما استولبه في شخصيته وفي سمعته وفي ذمامه اذا هو حنث في شرطه أو رجع عن وعده أو نقض ميثاقه الذي واثق على الوفاء به.
ويروي لنا كبار رواة التاريخ الاسلامي وغيرهم وقوع صلحين مهمين جداً جاءا لرفعة الاسلام والحد من إراقة دماء المسلمين والابقاء على الدين الاسلامي المحمدي الأصيل حتى يومنا هذا وهما صلح الحديبية بين الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والكفار، والصلح بين الامام الحسن بن علي أمير المؤمنين عليهما السلام وبين معاوية بن أبي سفيان؛ حيث يؤكد الرواة على أن كلا الصلحين قد نقضهما بنو أمية الطلقاء الأول على يد أبي سفيان (صخر بن حرب بن أمية بن عبد الشمس بن عبد مناف) والثاني على يد ولده معاوية بن أبي سفيان الذي أدى الى اغتصاب الحق وسفك الدماء البريئة [ أبن أبي الحديد (ج 4 ص 16و6و7) وأبن الأثير (ج 5 ص159و160) وتفسير الطبري (22/239-250) وتفسير ابن كثير (7/344-360) وصحيح البخاري (2734) وسنن أبي داود (2765) ومسند الامام أحمد (18449) وفتح الباري (5/334-350) والبداية والنهاية (4/317-325) وسيرة ابن هشام (2/389-397) وعيون الأثر (2/181-190) والكثير غيرها.
النقض الأول:- اعلن رسول الله (ص) في شهر ذي القعدة من العام السادس للهجرة نيته السير الى مكة لأداء العمرة، وأذّن في أصحابه بالرحيل إليها لأدائها وسار (ص) بألف وأربع مئة من المهاجرين والأنصار، ليس معهم من السلاح لأنهم يرغبون في السلام ولا يريدون قتال المشركين.. فلما اقتربوا من مكة بلغهم أن قريشاً جمعت الجموع لمقاتلتهم وصدهم عن البيت الحرام.
فاجتمع المسلمون حول نبي الرحمة وبايعوه تحت الشجرة "بيعة الرضوان" التي خلدها القرآن الكريم بقوله تعالى:"لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة" وقد قطعت هذه الشجرة في خلافة عمر بن الخطاب!!؛ ولما وصل قريش خبر "بيعة الرضوان" خافت خوفاً شديداً فقالوا نريد الصلح !.
فأسرعت قريش في إرسال "سهيل بن عمرو" لعقد الصلح، فلما رآه النبي (ص) قال: قد سهل لكم أمركم، أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، فتكلم "سهيل" طويلاً ثم اتفقا على قواعد الصلح "صلح الحديبية" الأربع التي مهدت الى دخول بعض القبائل الى دين الاسلام الحنيف آنذاك.
فالتزم الرسول (ص) وأتباعه وأنصاره بالمعاهدة والميثاق الذي وقعوه مع الكفار حتى نقضته ونكثته قريش بزعامة "أبو سفيان" وذلك بعد سنتين أي في السنة الثامنة للهجرة فقد أغارت قبيلة "بنو بكر" على "خزاعة" ليلاً بمساعدة "أبو سفيان" وقريش حيث مدوا "بني بكر" بالسلاح والقوم وأعانوهم بأنفسهم، وقتلوا جماعة من "خزاعة" التي كانت قد دخلت الدين الاسلامي، فكان ذلك نقضاً لصلح الحديبية .
اما النقض الثاني:- فكان حينما توجه الامام الحسن بن علي أمير المؤمنين (ع) لمحاربة "معاوية" أبن الطلقاء على التأويل في خروجه على امام وخليفة زمانه واغتصاب الخلافة المحرمة على الطلقاء وفي مقدمتهم "معاوية" وبنو أمية، كما حارب النبي الأعظم (ص) الكفار على التنزيل .
وقد ساعدت ظروف الكوفة البالغة الصعوبة والحساسية آنذاك "معاوية" على أجرامه هذا، حيث كانت تعيش اختلافاً كبيراً عن بقية الأمصار ذات الشعوب المتجانسة نسبياً في الجوانب الدينية والمذهبية والقومية، وتركيبتها كانت نشيج من الحزب الأموي، والخوارج، والمذبذبين الشكاكين، وشرطة زياد المسمّون بـ"الحمراء"، حيث يقدر الطبري عددهم بعشرات آلاف المسلحين ممن يسيل لعابهم أمام بريق الدينار والدرهم، وأصحاب المصالح! وكانت هذه التركيبة بحاجة الى عقلية قادرة على التعامل معها بوعي وحنكة فائقين ولم يكن غير الامام الحسن (ع) قادر على إدارة كفة هذا الموج المتلاطم من الوضع الاجتماعي؛ ولكن هل هناك طاعة من قبل الأمة على الحرب والسلم؟!، فيما يذكر المؤرخون أن جيش الامام الحسن (ع) بقي ينازل عدواً يعده خمسة وأربعين ضعفاً بالضبط ! فأين الكفاية لقمع فتنة الشام بالقوة ؟! ناهيك عن محاولات الخيانة والاغتيال المتعددة التي تعرض لها الامام الحسن عليه السلام حتى من أقرب أصحابه وأنصاره. كما إن سلطة الروم في ذلك الوقت كانت تتحين الفرص للانقضاض على دولة الاسلام .
ورأى الامام الحسن المجتبى (ع) بثاقب رأيه وتسديد السماء له أن الوقوف بوجه جيش الشام لم يكن من صالح الاسلام ولا من صالحه أو صالح أهل بيته وشيعته ، وإن الخوض في معارك خاسرة واضحة المعالم مسبقاً ضرب من عدم حنكة القيادة وعدم التدبير ولئن انتصر معاوية في حربه هذه رسمياً لاستطاع أن يزيل الإسلام من أساسه ويقضي على الدين وعلى جميع المؤمنين الحقيقيين من شيعة الامام علي (ع) تماماً، واستأصلهم من الوجود ، ولم يبق من الاسلام إلا اسمه ، ولا من القرآن إلا رسمه .
ولم يلتزم "معاوية" حتى بشرط واحد من تلك الشروط الخمسة التي وضعها الامام الحسن (ع) مع أنه وافق عليها في البدء وقال كلمته المشهورة بعدما صعد المنبر بعد حوالي ستة أيام من توقيعه على الصلح فنقض "خال المؤمنين" الصلح مع الامام الحسن عليه السلام ونصب ابنه "يزيد" الفاسق الفاجر لخلافته على المسلمين، وقال بصوت عال امام حشود المسلمين في الكوفة:" تظنون أني أقاتلكم من أجل الصلاة والصوم والحج، لا أنا أقاتلكم لأتأمر عليكم فأين الشريعة المحمدية؟"!!، ومن ثم تأمر على قتل سبط الرسول (ص) وسيد شباب أهل الجنة مراراً حتى دس اليه السم وارداه شهيداً ليلتحق بجده وأبيه ووالدته عليهم السلام أجمعين.
وقد توارث خبيث عن خبيث في بني أمية الحكم والسطوة على رقاب المسلمين وعملوا جاهدين على تفسيقها وتحريفها عن الصواب، وكان لأبن الطلقاء "معاوية" وولده شارب الخمر وفاعل الفجور "يزيد" يداَ طولى في تمزيق الأمة وإركاعها على الصنمية والجاهلية والقبلية ونقض المواثيق والوعود وضرب قوانين الله (سبحانه وتعالى) التي جاء بها الرسول المصطفى(ص) لانقاذ البشرية من الضلالة والظلمة والاستعباد والاستحمار الى عبودية الله الواحد الاحد والعيش الآمن والسليم، عرض الحائط وجعل المقررات المزيفة والاحاديث المدسوسة والاقوال اليهودية في نهج ايمان الأمة وتضليلها عن الطريق الصحيح وتزوير وتحريف الاحاديث والتفاسير طبقاً لهواهم.
وأمتهن "بنو العباس" من بعدهم ذات السيرة في الكذب والدجل والنفاق والتزوير وأراقة الدماء وإسكات الحق والحقيقة ونشر الصنمية والقبلية بغية إعادة الأمة الاسلامية الى عهد الجاهلية المظلمة لأنهم رأوا أسلافهم بني أمية كيف تمكنوا من الحكم بهذه الوسيلة واستمر الأمر على عهد العباسيين وفعلوا ما فعلوا بالاسلام والمسلمين يندى جبين الحر من ذكره فسالت انهار من دماء العلويين (من أئمة أهل البيت عليهم السلام) وأنصارهم واتباعهم وشيعتهم وأمتلأت السجون بهم فيما تم بناء الآلاف منهم في الجدران منذ عهد أبو العباس السفاح وحتى أخرهم عبد الله بن المنصور المستنصر واحداً تلو الآخر إجراماً ونهباً وسلباً واستباحة للقيم والأعراض والنواميس والحقوق.
وكان لفترة سطوة "هارون" وأبنه "المأمون" على رقاب المسلمين شأنهم شأن "معاوية" و"يزيد" وقع أكثر إيلاماً وتزويراً وخداعاً مما مهد لأنحراف أكبر للأمة على يد من تلاهم من خلفاء "بني العباس"، خاصة على عهد "المأمون" الذي لعب خدعة تنصيب الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام بمنصب ولاية العهد زوراً وبحد السف وبعد التهديد بالقتل وسفك دمه الطاهر ليبلغ ما كان يصبو اليه ؛ ولكن ما إن رآى "المأمون" بأنه فشل في بلوغ مبتغاه حتى دس السم الى الامام علي بن موسى الرضا (ع) وأرداه شهيداً في آخر يوم من شهر صفر .
ولا تزال المدرسة الأموية – العباسية الداعية للجاهلية والصنمية والفرعنة والظلم والاستبداد قائمة حتى يومنا هذا في معاداتها للاسلام وللرسول (ص) وأهل بيته الميامين (ع) وشيعتهم وأتباعهم في كل مكان تحت يافطة فتاوى وعاظ السلاطين المنحرفين في السعودية والبحرين وأخواتهما من الوهابيين والسلفيين المجرمين الذين هم أبعد كل البعد عن الاسلام وما جاء به ونزل في القرآن الكريم لينشروا الرعب والفزع والخوف والتقتيل والتفجير والتكفير في كل مكان ببترودولاراتهم.
مقالات اخرى للكاتب