لكي يكون الفقيه فقيهاً قادراً على استخراج الحكم الشرعي فعليه ان يستوعب ويدرك مصدرين أساسيين وهما الفقه وأصوله إدراكاً جيداً, فالفقه يمثل الأحكام الشرعية الجزئية التي تستمد مشروعيتها من الكتاب والسنة, وأما أصول الفقه فهي تمثل القواعد العامة التي تمهد للفقيه عملية البحث وتسهل له عملية إصدار الحكم الشرعي في أي مسألة فرعية مما يبتلى بها الفرد سواء في شؤونه الخاصة أو العامة. ولأهمية علم أصول الفقه وبما انه لا يخص باب فقهي معين ولكي لا تختلط العلوم فيما بينها وتلتبس المطالب على مريدها فقد افرده العلماء في كتاب ومباحث خاصة وجعلوها بمعزل عن الفقه في التصنيف لكي يتسنى لطلاب العلوم الدينية الإحاطة بها واستيعابها بأكمل صورة, وهذا الفعل من الأفعال الجيدة والمفيدة للباحث وهي متطورة مع تطور مناهج التعليم والدراسة في الحوزة, ولكن في مرور الزمن والأيام فقد رافقت مرحلة استقلال علم الأصول ومرحلة التطور التي مر بها بعض المواضيع والأبحاث الجانبية والتي لا دخل لها في عملية الاستنباط وأصبحت جزاءً لا يتجزأ من علم الأصول واُلحقت به مسائل نظرية وفلسفية وعقلية لا دخل لها في ما كان يراد له من تطوير هذا العلم ومن غايته والهدف الذي اُنشأ من اجله هذا العلم.
إن الهدف الأساس والوحيد الذي تأسس من اجله علم أصول الفقه هو فهم كيفية استخراج الأحكام الشرعية من مصادرها الأساسية وهي القران والسنة وكل ما عدى ذلك فهو ليس بعلم أصول الفقه وأما الأبحاث والمواضيع الأخرى فهي تدخل في باب ثاني يكون رديف لعلم أصول الفقه, وهذا الباب نستطيع أن نطلق عليه عنوان آخر مثلاً عنوان المدخل إلى علم الأصول أو غيرها من العناوين المناسبة له.
وهذه المسائل الزائدة عن أصول الفقه كثيرة جداً تكون هي بمفردها علم مستقل آخر كما قلنا, ومن تلك المسائل مسألة بحث المشتق ومقدمة الواجب العقلية ومسألة الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده والبحوث اللغوية وغيرها كثير ممن يقضي الطالب في دراستها الأشهر العديدة من دون ثمرة عملية في تقدمه نحو عملية الاستنباط التي يبحث عنها الطالب في دراسته والتي لا يجدها في هذه المباحث التي يراد لها أن تكون هي المقدمات لتلك العملية وربما يغفل الكثير عن إدراك تلك الحقيقة وتراهم في حيرة وتساؤل من أمرهم هل إن الخلل يقع في نفس الطالب أو في الأستاذ أم في عدم إدراك المطالب وغيرها من الأوهام التي يمر بها الطالب بسبب خلط تلك المواضيع وعدم فرزها بشكل جيد.
ومن ابرز تلك العوامل التي أدت إلى اتساع علم أصول الفقه وجعله بهذه الصورة التي تستوعب مسائل فرعية لا ثمرة فيها أو مسائل فلسفية لا حجة مرجو منها ومسائل لغوية لا موضوع لها, عدة عوامل نذكر منها:
أولاً: كثرة العلماء في داخل أروقة الحوزة والتي تحتم على العالم إن يشكل ويرد ويستفهم وينقض ما يطرحه العالم الأخر.
ثانياً: إبراز العلمية والقدرة لدى الفقيه في النقض والإشكال على مطالب وبحوث أساتذته ومدرسيه التي يطرحونها في حلقة الدرس مع سردهم لعدة أدلة تعضد مُختارهم في اختيار مسألة معينة.
ثالثاً: التفكير الزائد في استظهار الإشكالات على ما ساقهُ ذلك الأستاذ من أدلة على اختيار تلك المسالة والإتيان بمسالة أخره ربما تخالف لما يتبناه الأستاذ, واستظهار الإشكالات الزائدة حتى على مواضيع علم أصول الفقه نفسه.
رابعاً: وهي الأهم قلة الاهتمامات الأخرى لدى العلماء والفقهاء في تلك الأزمة التي انتعش بها علم الأصول من حيث تنوع المسال وكثرتها وكثرة الإشكالات والردود عليها, فقد كان الفقهاء والعلماء لا يهتمون بما يحيط بالمجتمع ومؤسسات الدولة ولا ما تعانيه المجتمعات الأخرى ولا يوجد ذلك التطور الملحوظ في اتساع مفهوم الفقيه الحاكم إلى أن وصل اليوم إلى القول بولاية الفقيه التي يتحتم على من يقول بها إن يسعى جاهداً إلى تخليص الأمة من الظلم والاضطهاد والحرمان.
وغيرها من النقاط التي ربما خفيت علينا ولم نشر إليها هي التي كانت من أسباب اتساع علم أصول الفقه حتى وصل إلى ما هو عليه اليوم.
خامساً: الطريقة المعقدة التي كتب بها علم الأصول والتعقيد في عبارته مما جعل الطالب لا يستطيع ان يفك رموزه إلا بالاستعانة بعدة شروح له مما يجعل الطالب يبتعد عن فهم المطلب الذي يدرسه وهذا سبب رئيسي في ترهل فهم علم الأصول اليوم لدى الطالب, وهذا ما حدا بعض المفكرين إلى إعادة كتابة المناهج الحوزوية بطريقة أخرى تتناسب مع فهم الطالب للمطلب مع حفظ المعنى ووضوح المبنى مما يستأنس به الطالب ويستلذ بقراته ويدرك مطالبه جيداً, وهذا ما تبتعد عنه اغلب ان لم نقل كل الكتابات القديمة التي دونت علم الأصول.
وبسبب تلك الأمور ضاع علينا الهدف الحقيقي الذي من اجله جُعل علم أصول الفقه علم مستقل وهذا الهدف هو أن علم الأصول وسيلة وليس غاية فانه يُدرس لغيره وليس لنفسه, يدرس لكي يفهم الطالب كيف يستخرج الحكم الشرعي من مصدره وليس لتعلم قواعده وفك إشكالاته وكثرة أطروحاته فهذا الأمر ليس من هدف علم أصول الفقه.
لذلك إننا اليوم ندعو أصحاب القرار إلى تقسيم علم أصول الفقه إلى قسمين الأول يبحث في شتى مواضيع علم أصول الفقه ويرد عليها وكيفية تطويرها ويكون مادة معرفية شاملة يدرسها الطالب لغرض معرفة علم أصول الفقه وما يتعلق به تحت عنوان يناسبه كما قلنا سابقاً.
والمبحث الثاني يختص في دراسة مواضيع علم أصول الفقه التي تقع في استنباط الحكم الشرعي التي يعتمد عليها الفقيه في علم الفقه لاستخراج المسائل الشرعية من الأدلة التفصيلية, وبذلك نكون قد ذللنا الصعاب أمام الطالب لكي يتسنى له الاقتراب من عملية الاستنباط في وقت مبكر من دراسته, وبالتالي يستطيع ان يخدم الحركة العلمية والمجتمع وهو في ريعان شبابه قبل ان يصل إلى مرحلة الشيخوخة حتى يقال عنه انه مجتهد!.
مقالات اخرى للكاتب