لم يتفق المحللون الاقتصاديون على نوع العلاقة بين المصاريف العسكرية والنمو الاقتصادي. فمنهم من وجدها علاقة طردية , كلما زادت المصاريف العسكرية زاد النمو الاقتصادي , البعض منهم وجد العلاقة سالبة او معاكسة , بينما جزء اخر من المحللين وجد ان لا علاقة بين الاثنين , أي محايدة , حيث ان المصاريف العسكرية لا تزيد من الدخل الوطني ولا تقلله. بعض المحللين الاقتصاديين وجد العلاقة بين الاثنين خطية ومستقيمة , بينما وجد الاخرون ان العلاقة هي خط منحني بين الصعود والنزول . محللون اخرون وجدوا ان المصاريف العسكرية ضمن حد معين تأثر على الاقتصاد الوطني تأثيرا إيجابيا ولكن بعد حين تبدأ بالتأثير السلبي. بعض المحللين وجدوا ان المصاريف العسكرية في بلدان العالم الثالث تخدم الاقتصاد الوطني بينما لا تأثر كثيرا على الاقتصاد المتطور .
الخلافات في تقييم علاقة المصاريف العسكرية وتأثيرها على الاقتصاد الوطني مصدرها هو اختلاف النظريات والافتراضات , اختلاف الموديل الاقتصادي , الفترة الزمنية للمعلومات , و نوع النظام السياسي للبلد تحت الدراسة . من يقول هناك علاقة طردية بين المصاريف العسكرية والاقتصاد الوطني يفترض ان المصاريف العسكرية هي مصاريف حكومية لا تختلف عن المصاريف الرأسمالية. فعندما تقوم الدولة ببناء معسكر كبير في احد مدنها , فان هذا البناء سوف يحتاج الى جميع أنواع مواد البناء مثل الاسمنت , الرمل , الحديد , الحصى , الطابوق , البنائين , خدمات نقل المواد , مهندسين بجميع اختصاصاتهم , توصيل ماء وكهرباء وتلفون و انترنيت . اذن المصاريف الحكومية لبناء معسكر لا يختلف كثيرا عن انشاء جسر على نهر او شارع عام يربط بين مدينتين. اكثر من ذلك يفترض هذا المخيم من المحللين ان الجنود بكافة مراتبهم يتعلمون مهن يستفاد منها السوق بعد تسريحهم , مثل سواق السيارات , الكهربائيين , توصيل المياه , الصباغين , مصلحي الأجهزة الكهربائية . بل يذهب هذا النوع من الاقتصاديين بالقول ان البشرية مدينة الى العسكر , حيث خرجت من معسكراتهم اختراعات مهمة مثل جهاز الميكروويف , الانترنت , GPS وطائرات المسيرة و اختراعات مهمة أخرى . كل هذه تشارك مشاركة حقيقية في تقدم وازدهار اقتصاد البلدان .
المخيم الاخر من الاقتصاديين , يعتبرون ان المصاريف العسكرية تأثر تأثيرا سالبا على الاقتصاد الوطني . هذه المجموعة تفترض ان زيادة المصاريف الحكومية على العسكر تؤدي بالضرورة الى تخفيض التخصيصات على المشاريع الغير عسكرية. أي كلما زادت المصاريف العسكرية قلت التخصيصات للزراعة والصناعة وقطاع الانشاء , والعكس صحيح . إضافة الى ذلك حتى وان استطاعت الحكومة الاقتراض لتمويل المشاريع العسكرية فان هذا الاقتراض الحكومي سيلحق ضررين على الاقتصاد الوطني. أولا الاقتراض الزائد سوف يقلص حجم رأسمال المتوفر الى القطاع الخاص و ثانيا سوف يزيد من نسبة الفائدة على القروض مما يؤثر تأثيرا سالبا على حجم الاستثمارات في البلد. على سبيل المثال , نسبة فائدة على القروض 5% تحفز المستثمرين على الاقتراض (نقود رخيصة) بينما ارتفاع نسبة الفائدة الى 12% سوف لن تشجع المستثمرين على الاقتراض وسوف يعاني قطاع الاستثمار الى الركود . يضاف الى ذلك , فان تمويل المصاريف العسكرية من خلال العجز المالي هو الاخر سوف يؤدي الى تباطئي في الإنتاج الوطني , لان الحكومة عاجلا او اجلا سوف تضطر برفع نسبة الضرائب على المواطنين وسوف يؤدي الى تقلص قابلية المواطن على الشراء ( ركود اقتصادي).
ما يخصنا هو تحرير الفلوجة وتأثير هذا النصر على الاقتصاد الوطني. ابتداء , ان أي نصر على تنظيم داعش وفي أي مدينة عراقية هو دعم للاقتصاد الوطني . تحرير الرمادي على سبيل المثال خفف الأعباء المالية على الحكومة , لان رجوع أهلها اليها قلل المصاريف الحكومية على النازحين منهم ,إضافة الى ذلك ان رجوع اهل الرمادي الى قضائهم يعني رجوعهم الى أعمالهم والتي هي جزء من الإنتاج الوطني . تحرير الموصل , وهي من اكبر المحافظات المنتجة لرغيف الخبز , رجوع أهلها لها مرة ثانية , يعني اكتفاء الحاجة الى المساعدات الحكومية , و العودة الى مزارعهم لإنتاج القمح والشعير و بذلك يؤدي الى تقليص اعتماد العراق على السوق الخارجية في سلته الغذائية. التخلص من داعش يعني تخليص البنى التحتية من الدمار كما حدث في الرمادي وسنجار. القضاء على داعش يعني تقليص عدد الهجمات الإرهابية ضد المواقع الحكومية والمدينة وتقليص اضرار هذه الهجمات. عندما يهاجم ارهابيون سوق او مسجد او مستشفى , فان دمارا كبير يصيب هذه المباني إضافة الى الضحايا من البشر . وعندما يقضى على داعش يرجع السوق العراقي الى عافيته , وترجع الثقة والطمأنينة في قلوب المتبضعين . الدول المستقرة سياسيا وامنيا اكثر تقدما وازدهار من الدول التي تعاني من الانقسامات السياسية او الاضطرابات الأمنية. البورصة البريطانية وعملتها الوطنية انحدرت نحو الجنوب بسرعة البرق بسبب اضراب سياسي طال يومين , فكيف لو كان هذا الاضطراب يطول 13 عاما؟
العراق يحتاج الى تقوية المؤسسة العسكرية والأمنية طيلة العشرين سنة القادمة. يجب ان لا تتراخى الحكومة من تقديم العون والمساعدات الى المؤسسات الأمنية والعسكرية بعد اندحار داعش . داعش كتنظيم مسلح وله حدود و موارد مالية قد اصبح من الماضي , ولكن تأثيراته السالبة على عقول بعض الشباب سوف تستمر طويلا , وقد يقوم هؤلاء الشباب بغزوات متفرقة هنا وهناك قد تؤدي بحياة المواطنين وتخريب المنشآت الحكومية والأهلية وقد تكون كلفتها تفوق المصاريف على الأجهزة الأمنية طيلة عام كامل . ان الدمار الاقتصادي والبشري الذي أصاب العراق من جراء العمليات الإرهابية لتنظيم داعش لا يمكن احصائها وهي أعظم من التصور. كيف نحتسب الكلفة المالية لفقد ام لابنها الوحيد في أحد العمليات الإرهابية؟ او كيف نحتسب كلفة خسارة العائلة الكربلائية طفلاها علي وليان في التفجيرات الأخيرة؟
وعليه , فان الانتصار على تنظيم داعش سوف يحفظ ما تبقى في العراق من بنى تحتية , وسوف يؤدي على القضاء على مشكلة النازحين , يحفظ النفوس من الموت العبثي , و يرجع المواطن العراقي الى عمله , وترجع شوارع وأسواق ومتنزهات المدن الى عافيتها , و سيتحول القطاع الرأسمالي (الاستثماري) في العراق من حالة سالبة الى حالة نمو و بوتائر مسرعة , وعندما ينطلق الاستثمار سوف لن تجد شابا بدون عمل . ولكن على شرط ادامة المؤسسة العسكرية والأمنية والاعتناء بها , لأنها اثبتت اكثر اخلاصا وتضحية وانضباطا من بعض سياسينا العملاء والطائفين والموتورين.
مقالات اخرى للكاتب