لا مناص من أن يتلقى كتّاب الشأن السياسي العراقي سمومه الراجعة. إن الميكانيكية الاجتماعية التي تسود في الشوارع تواصل عملها: تغير الكلمات، تسيء فهمها، تأول مضامينها، تفسدها بمقاربة مستحيلة، تضعها بمساءلة مخبولة، وتتهم أصحابها بأنهم يمرحون ويلعبون فيما الدم يصل إلى الركاب: هذا ما حصلت عليه أخيراً بعد نشر مقالتي (اللاأدرية بشروحي.. الخ).
الكتابة عن الأزمة الراهنة ورجالاتها تعني دخولك إلى ساحة ذهانية تضع هي الأسئلة وتجيب عنها كأنها صادرة منك. هذا الزمن ينسخ كتاباتك بنسخ لا تستطيع أن تتعرف على قلمك فيها. ولسوف ترى آثار ماكنة تقرأ قراءات طائفية ونفسية ولغوية مجهزة بمشغّل لا يتوقف ولا يراجع ولا يصحح ولا يسامح ولا يمحو. إذا لم تستطع الكتابة وأنت تمشي على البيض، فما من طريق آخر غير تلك التي عُبّدت بالطين والزيت والصابون. كل الطرق تزحلق. الكتابة زحلقة.
لا أتحدث هنا عن تعليقات منشورة على الفيسبوك، فغالبيتها جاءت من اصدقائي، وبيني وبينهم الحب والمعرفة والتوقع والميانة. ولا أتحدث عن كتابات منشورة بل عن رسائل غفل بدت كما لو أنها منظمة بطريقة تخفي فيها مراجعها السياسية. غاضبون صريحون يشتمونك لأنك دافعت عن "المنافق" علاوي ضد "الامين" المالكي، وأنك تخفي داعشا في عبك، وأنك بت جزءاً من الحملة الطائفية على العراق.
أود أن أوضح دفعاً لأي التباس ناتج عن أسلوبي في الكتابة، إن مقالتي الممراحة بعض الشيء أرادت أن تصف الدراما السياسية العراقية. ولما كان ثمة "بطل" يصارع حظوظه في كل دراما مكتوبة او معاشة، فقد اخترت اياد علاوي كبطل، أو لنقل الشخصية الرئيسية فيها. هل ثمة ميزات جعلتني أختاره وليس وزير الكهرباء؟ نعم.. لأن علاوي غير طائفي يسبح في بحر طائفي. هذا هو نسق درامي مع مجموعة من العقد والمسارات لشخص يصارع قوى أكبر منه.
تصوروا ما يأتي: ينطلق شخص في حملة يعتقد أن هدفها تحرير العراق من الدكتاتورية. إنه فرد فردي وجد نفسه بين "عتاولة" الطوائف والاثنيات، فراح ضحيتهم، إذ استخدموا قبوله العادي، وسرعة تصديقه، واحترامه لتعهداته، لبناء سلطة شبه ريفية.. عشائرية وطائفية.
في الدراما القديمة منذ اسخيلوس حتى شكسبير يصارع الأبطال قوى أكبر منهم، من هنا كانوا يموتون في ختام الصراع. لكن نبل أرواحهم وشجاعتهم تبقى أمثولة بعدهم، أما سهوهم واستسلامهم للاغراء، ونواقصهم، فقد عدت درساً للحياة الخلقية التي يعيشها الانسان. إذن صارع علاوي شيئا اكبر منه بكثير، ويتجاوزه، لكنه لم يقتله. (إن من مسّت العولمة أصابعه لا يموت حتى من الحزن).
بعد اتضاح أفق 2003، وظهور بؤسه وسخفه، وبعد أن جعلوه يخسر معركة ربحها، ظل علاوي في اللعبة البرلمانية والتمثيل في حكومة فاشلة انتقد رئيسها ونسقها المحاصصي، ولم ينتقل الى إلمعارضة المنظمة، والسلطة نفسها دخلت الى أفق بعيدا عنه. إنه تناقض مع انسحاب بلا هدف.
في السياسة، كما في الدراما، لا تقاس النتائج بالنيات بل بالاعمال. من هنا يمكن القول إن قبول علاوي منصب نائب رئيس الجمهورية محاولة رمزية في استرجاع سلطة ضاعت منه ولن تعود. إنها محاولة غير موفقة أساءت إليه حتى لو بررها بالتحشيد الوطني ضد داعش وما رافقها من ضغوط خارجية. والحال أن مجرد انتخاب ثلاثة نواب لرئيس الجمهورية يعكس عقلية المحاصصة التي انتقدها علاوي، بل وانتقدها الثلاثة، بل الأربعة، أي رئيس الجمهورية نفسه. في الوقت نفسه تشكلت الحكومة متطابقة مع جنس هذا اللقاء الغريب الذي جمع النواب الثلاثة. إنه نفاق سياسي يتستر خلف وحدة الموقف، ولا أظنه سيكون نافعا لأي قضية. إنها ختامية سيئة لعلاوي.
هذه باختصار مضامين مقالتي من دون تفاصيل ولا بهارات أسلوبية، ولا تعدو فيها (أدري) و(لا أدري) غير لعبة دلالية تستبدل فيها التقييمات الخلقية والسياسية مواقعها. ما الذي جعلني اعتمد على هذه اللعبة؟ لأنها قادرة – حسب ظني - على توليد طاقة شعبية من كلمتين معبأتين بالمعاني والأحكام في سياق الاستخدام السياسي. والآن فإن من قرأ مقالتي وهو يلونها بالالوان التي يريد فهذا أمر لم يعد غريبا عن المناكدات العراقية، لكني سأعدّها مناسبة لنناقش فيها بعقلانية مأزق الكتابة السياسية في زمن الصراع، فهذا أنفع.
إن حدث تشكيل الحكومة والرئاسة خلق إحساسا بالراحة لأنه مثّل انفراجا لأزمة في ظروف تعبئة عسكرية وسياسية ضد داعش. لكن هذا الحدث لم يغير شيئا حقيقيا في الافق السياسي، فطريقة تشكيل الحكومة الجديدة أشارت الى أن العبادي حافظ على تقاليد سلفه ورئيس حزبه. ما حدث هو حفل محاصصة وتتويج جديد لها وليس إعلانا عن مرحلة جديدة تعد نفسها لمواجهة الإرهاب. هذا الجزء من الدراما العراقية انقلب إلى ميلودراما، في أثناء ما كان خط الموت يواصل حصد العراقيين. فبعد مجزرة "سبايكر" جاءت مجزرة الصقلاوية، والاثنتان لا نعرف تفاصيلهما تماما، الاثنتان غابت عنهما السلطة أو غيبتهما، فضلا عن إخفاء وقائع شهر حزيران وهزيمة الجيش، وتعنت المالكي، ثم قبوله بترضية. لقد جري دفع الجزء المأساوي والدموي الى الظل، وأبقيت لنا مهازل طلاب السلطة وتوزيع المناصب ما بينهم والتي صورت، في سياق التحشيد لقتال داعش، كعتبة تغيير منشود: هكذا جرى ليّ رقبة الإعلام والكتابة باتجاه آخر!
إن اختيار سياسيين من الخط الاول لمناصب وزارية لا يعني شيئاً سوى أن المحاصصة مارست قوانين الطوارئ بسبب الظروف، وليس تمتين أواصر الوحدة الوطنية. حتى الآن كل شيء سار على وفق السياسة القديمة التي أوصلتنا الى مأزق وطني خطر، ما يؤكد ما قلته مراراً أن المشكلة قائمة في صلب النظام السياسي. فضلا عن ذلك لا أرى أن التدويل الحاصل في محاربة داعش، وهو مفيد طبعا للانتصار على وحش كاسر، سوف يحرر السلطة من عاداتها السيئة. إنه يغطيها إلى حين، لكن إذا لم تقم بالاصلاح السياسي المطلوب فعليها أن تكون مستعدة لدفع تكاليف باهظة في المستقبل، لأنها باتت مكشوفة بلا أغطية. في كل الأحوال يعدّ الحل الوطني الذي يعتمد على الكفاءة المهنية والخلقية وتوسيع الممارسة الديمقراطية المؤشر الحقيقي على اعتماد برنامج جديد. بيد أنه حل لن يظهر إلا بعد وضع العملية السياسية والنظام السياسي الذي تمخض عنها بمساءلة لا تخشى نتائجها.
في الظاهر بدت مقالتي متعاطفة مع علاوي، بيد أن أهدافي غير معنية بالتعاطف بل بوصف ما جرى من وقائع. في واحدة من مقالاتي بررت تخبط المالكي بكونه لم يرث دولة قائمة ولا استقرارا أمنيا ممتازا، ما جعله يرتجل كثيرا. ليس التعاطف إذن بل الفهم. لا يعني الفهم أن أنحاز الى علاوي ضد المالكي، فهذا هو عين الحماقة، بل الهدف كشف تناقضات وضعية تاريخية تمارس فيها الشخصيات السياسية أدوارها في المسرح السياسي. هذا ما أسميه التحليل الجدلي الذي يكشف التناقضات الداخلية في مسارات متعددة: القول والعمل، البرامج وتطبيقاتها، الفكرة التي تتحداها التجربة، العقائد والزمن.. الخ.
أصارحكم القول إنني أشعر بعدم الارتياح من الكتابات السياسية، أو لنقل أنها تحبطني، وهذا يشمل كتاباتي، بصرف النظر عن ميولي النقدية. لماذا؟ لأنها تلاحق عشرات القضايا المتمفصلة مع السلطة، فيما السلطة عاجزة أو عزوفة عن تقبل أي معرفة تأتي من خارج سياقات تقاريرها الغامضة التي أثبتت الأحداث أنها كاذبة أو ناقصة أو محتالة. لا خيارات أمام كتّاب لا يستطيعون لفت انتباه السلطة المصابة بالصمم والتعبير عن حرصهم على وطنهم غير أن يمنوا النفس بأن كتاباتهم تقرأ وتقيّم من الجماعات الثقافية: السقوف تنزل إذن، وهي دائماً في حالة نزول، بما يجعل الكتابة السياسية تصاب بالكآبة وفقر الدم. بيد أن الكتّاب والقراء المفترضين والمتوقعين عالقون معا، يعيدون انتاج السخط والتأويل في وضعية مضطربة. إن شكاواهم وقضاياهم المشتركة تتوجه في النهاية الى السلطة. تذكروا نحن لا نتسامر بل نبحث عن حلول. هل فهمتم المأزق؟!
تزدهر الكتابة السياسية اليوم في العراق ليس بسبب مساحة الحرية بل بسبب عمق الأزمة، من هنا فهي في وضع اشكالي. إن مادتها تأتي من أزمة سياسية يعترف أصحابها أنها كذلك، ويعترف العالم أنها معقدة، بشعور عام بوجود سلطة هشة تتجه نحو الكارثة. السلطة كانت دائما في أزمة، وكانت دائما بلا ذكاء، سريعة الإغراء في الانجرار خلف مخططات الارهاب الطائفية غير متسلحة ببرنامج وطني، ما جعل الأزمة تتطور وتهدد مستقبل العراق كدولة موحدة.
يفهم العقلانيون وأصحاب الحسّ السليم الحالة العراقية بإحالة تعقيداتها الى البداهة، كما في الاسئلة المحددة الآتية التي تتوقع إجابات من صنفها: لماذا الحالة العراقية معقدة مع وجود حلول واضحة وضوح الشمس؟ ما المعقد في إزالة الفساد إذا كان القادة غير فاسدين؟ وما التعقيد في اختيار الكفاءة المهنية بديلاً عن طالبي الحصص المضحكين؟ لا تعقيد حقيقياً عندما نستشير العقل أو الحسّ السليم، حتى أن أصعب المشكلات تبدو قابلة للحل. لكن السياسة بوجه عام، حتى في الغرب، تتشكل في بيئات تعترف بالمصالح قبل متطبات العقل، وهي تخضع إلى موازنات مجتمعية وسلطوية وتقاليد ثقافية و(فلاتر) عقلانية متفرعة من النظام الديمقراطي التعددي، وثمة طبقة سياسية محترفة تأخذ الأمور على عاتقها بحيث تعفي المجتمع من الهزات القاتلة. هناك دائماً معركة لتوليد صياغات نطلق عليها عقلانية أو خاضعة إلى الشفافية والرقابة المجتمعية. في العراق الوضع يختلف، فلا توجد طبقة سياسية (استخدام مفهوم الطبقة السياسية عندنا خاطئ)، والعمل السياسي يقاد من بيئات طائفية، والسياسيون، ولاسيما الكذابون والمزيفون منهم، وهم كثار، يتظاهرون بأنهم يدافعون عن حقوق ثقافية تاريخية يعود تاريخها إلى اكثر من الف عام. لقد تبين من تجربة الأعوام الماضية أن مصالح القوى الطائفية ليست على وفاق دائم مع المصالح الوطنية العليا، إن لم تعارضها، كما تصطدم إرادتها الفوضوية بآليات الدولة الحديثة. إن نهب الدولة وتحويلها إلى بقرة حلوب هو التتمة المنطقية لهذه الحالة، وهو ما أفضى ويفضي إلى تحطيم القاعدة التي تنطلق منها كل خطة لتطوير المجتمع. إن الصعوبات الحالية ناتجة من هذا التحطيم المبرمج الذي تقوم به الطوائف المسيّسة لقاعدة العمل الوطني.
إننا في مأزق، نرتد دائما الى الوراء، ونكتشف بعد كل أزمة أن النظام السياسي يزداد بطئا وتفككا وصمما، مضيفا الى انعدام نزاهته عدم امتلاكه إرادة الاصلاح السياسي. هذا الاستنتاج يزداد إشكالية كلما توغلنا في العمق، إذ نكتشف فضلا عن سوء الاخلاق وانعدام الإرادة وعدم الكفاءة، خنادق وأبنية اديولوجية واقتصادية وحبكات هائلة لها ذيول وتشعبات اقليمية ودولية. سنجد أنفسنا إزاء حفل صاخب تجتمع فيه قوى مختلفة لا تتوقف عن الدفاع عن مصالحها الضيقة حتى لو مات الالاف من مواطنينا البؤساء. كل شيء بات مخيفاً ومعقداً ولا حلول له إلا بانتظار معجزة، وسيكون على الأبنية قصيرة العمر لقصصنا وكتاباتنا أن تواجه كل هذا وتفكك عقده وهي تتلمس مواقع أقدامها في الظلام، بلا وثائق ولا معدات عمل مناسبة. إن أفضل الكتّاب المجتهدين لا يستطيع الوصول إلى كواليس ذي ممرات مظلمة ومتشعبة تمتد من إيران الى سوريا وقطر والسعودية وواشنطن ولندن وموسكو. إنه سيحلل سطوح سياسية تجمعها الاخبار وتفرقها، ولا تتشكل في نظام واضح، أما القصص الاخبارية فتكاد أن تتعثر بين جدران تلك الممرات المظلمة. قصص الفساد نفسها نتعرف عليها من شهادة فاسد آخر، أو أنها تطفو مع أبخرتها النتنة عندما يلتقي، بلا ميعاد، جارور قذر بجارور قذر آخر. التحاليل السياسية تصل إلى مناطق ظل عنيدة ومخيفة يعجز القلم عن تحليلها ووصفها.
لقد حدثت هوّةٌ عميقة بين الكتابة السياسية والبيئة السياسية العامة، ليس بسبب نقص التفاعل بينهما فقط، بل ولوجود انفصال حضاري بين ثقافة الكتابة المعاصرة ومتطلباتها المعروفة وزمن البيئة السياسية الراجع الى الخلف. من الصعوبة تجسير الهوة بين الإدارة العقلانية للكتابة السياسية، والبيئة السياسية التي تديرها الطوائف التي تعتمد الاحتيال على الزمن وعلى الحداثة. إن أغلب سياسيي الطوائف لا يمتون إلى زمننا بصلة، وكامل أهدافهم تتمثل بالقبض على مصالحهم والهيمنة على مجتمع يواصل الابتعاد عن توقعاتهم.
وصف الشاعر المصري عبد المعطي حجازي الإخوان المسلمين في مصر بأنهم ليسوا من هذا الكوكب، فبماذا نصف الاسلاميين العراقيين، نظرا لسوء إدارتهم ونهبهم الأموال العامة وتحطيمهم للدولة؟يظن بعض الكتّاب، وأنا منهم، أنهم يكتبون للحقيقة وللتاريخ. المقصود بالطبع أنهم لا يرجون من كتاباتهم غير النجاة بأرواحهم، لا يبيعون، لا يشترون، لا يتطرق إليهم الفساد. ذلكم سلوك محسوب على الشرف والفضيلة. ماركس نفسه بحث عن الخلاص حين قال: "لقد قلت وخلّصت نفسي". إن فكرتي الخلاص والنفس المطمئنة يسعى إليهما الروحانيون في كل مكان يفتقد إلى الروح. لكن المهنة تحتاج إلى ما يجعل الكلمات موثقة وذات صدقية عالية وليست مصدرا للسلوى الروحية فقط. أعتقد أن القليل من الكتاب استطاعوا الحصول على معلومات من مصدر موثوق، أو من سلطة موثوقة، أو من تسلسل مهني يمنح الصدقية من وجهة نظر مهنية نسقية. ليست هذه دعوة للتخلي عن الكتابة السياسية، بل وصف مأزقها. إن كل ما يطفو على السطح في العراق، وهو غزير وهائل ويشعل أذيالنا بالنار، يصلح قصة اخبارية. لكن الغموض وعدم اليقين يلاحقان هذه القصص نظرا لطوفان الكذب والشائعات والتفاهة السياسية التي تثير التقزز، كما أن المعركة السياسية الدائرة من حولنا تبدو في آثارها المباشرة كأنها معركة يديرها طائفيون ضد طائفيين. إننا وسط ضخ إعلامي يضم قصصا وروايات نصف كاذبة، وتقارير اخبارية تحاول أن تلتزم بالمعايير المهنية والموضوعية لتسحقها أخبار مضادة، وأعمدة رأي تعالج السطح السياسي ولا تردّ الافكار والشخصيات والأحداث إلى أصولها الاجتماعية والنفسية، مانحةً القيمة لما هو سياسي في ظرف لا نستطيع التفريق فيه بين السياسي واللاأخلاقي والجنائي. إن السياسي هو جسم بيني شبحي مشوه في وطن يحترق ومواطنوه يقتلون ويهانون ويطردون من بيوتهم.
يتلخص التاريخ السياسي منذ 2003 بتراكم مخيف للنهب المنظم واللامبالاة والفساد الاداري وخيانة العهود والفكر الطائفي الظلامي. لا ينفصل ظهور داعش عن هذا التاريخ. من يقول بغير هذا سيء النية. إن كل تلك الأكوام من القذارة شكلت ممرات داعش الى العراق، ومثلها ممرات الفساد والخيانة. السلطة التي لا تعترف بهذا سوف تضللنا وتسلمنا إلى إرهابين: إرهابها وإرهاب داعش!.
سؤال: ماذا فعلت القصص الموثقة بالصور والفيديو لجرائم سبايكر؟ حتى الان مازلنا ندقّ ابواب القلوب الحجرية دون جواب. حتى الآن نقف حيارى عاجزين إزاء تزييفات لا يقوم بها إلا خبراء في الكذب والجريمة. فماذا نتوقع غير تكاثر قصص الموت واللامبالاة والجهل.. وماذا نتوقع عندما تصبح التطورات سريعة جدا يصعب ملاحقتها غير أن ننسى شريط الدم الذي خلفنا، عندها يسهل تسلل الفاسدين الى خارج المشهد؟!
في أغلب تاريخه افتقد الادب السياسي العراقي وجود دولة تتصف بالحياد، ومستقلة عن النظام السياسي، ولا تكترث للمعركة السياسية إلا من وجهة المسؤوليات القانونية والدستورية وحماية أمن الدولة ومواطنيها. منذ عام 2003 لم تعد الدولة موجودة ككيان مؤسساتي، بعد أن سحقها الاحتلال، أما النظام السياسي الذي تشكل بعد عام 2003 فقد فشل في بنائها، بل إنه أجهز على مبدأ وجودها المستقل عندما باع مؤسساتها في مزاد المحاصصة التجاري. مخطئ من يظن أن الكتابة السياسية تستقل عن هذه الحقيقة وتحلق بعيدا عنها باسم حرية التعبير. بدا هذا ممكنا في البداية وسط فوضى الأيام الأولى من الاحتلال، وآنذاك كانت مواضيع تصفية حسابات الماضي هي القصص الأثيرة على أي حال. لكن بمجرد ظهور تشكيل سلطوي له مصالح محددة، بانت مشكلات إعلامية محددة وهي توفير مصادر معلومات مؤكدة (لأن السلطة التي لا توفر المعلومات تضعنا في الأقل على أعتابها)، ثم مشكلات حرية التعبير، بل والتعبير بوجه عام. لكن النظام السياسي فشل في توفير الحد الادنى من الشفافية والمعلومات، والأصل أنه لم يوفر الحد الأدني من الأمن، ما جعل قضايا الأمن تتقدم على كل قضية، وأصبح بإمكان السلطة أن تتهرب من توفير الخدمات الاساسية للمواطنين، عندها باتت الحرية مهددة، فضلا عن أنها باتت تجريدية.
تحتاج السلطة الى معرفة، والمعرفة إلى سلطة. لكن سلطةً لم تستطع الإجابة عن مصير مئات الطيارين والمهندسين والاطباء والأكاديميين والصحفيين والاعلاميين الذين اختفوا أو قتلوا في ظروف غامضة، ولم تستطع منع المفخخات من قتل آلاف المواطنين وما زالت، بل وتاجرت بدمائهم، وسمحت للصوص والفاسدين بالهرب، وتاجرت بأجهزة فاسدة، وسلّم جيشها ثالث مدينة في العراق دون قتال.. هذه السلطة تشكل مشكلة للوجود قبل الكتابة. سلطة كهذه لا تمتلك معلومات، وتخفي معلومات، وتفسد معلومات، وتختلق معلومات. بالرغم من ذلك فهي تشكل في كل نواقصها حالة الأمر الواقع، ليعاملها الإعلام كحقيقة، أي ينقلها من كونها أمراً واقعاً إلى كونها الإمكانية المتوفرة للعقل السياسي العراقي وإرادته.
هل تدركون أن هذه النتيجة الاخيرة، وهي أكثر من تعبير استنتاجي، خطرة إذا ما استدخلها عقل حر باسم الواقعية، أعني إذا سُلّم بها دون مقاومة. أعرف "ثوريين" استدخلوها لحماية أنفسهم من الحقيقة باسم الامر الواقع وأعفوا أنفسهم من النضال. إن هذه النتيجة تزداد خطورةً بسبب ترابطها بميزان قوى يعمل على الارض تدير موازناته الطوائف بين ممرات السلطة والخيانة والموت.
هناك ظواهر متممة في الدراما العراقية تظهر في الكتابة، أهمها ظهور سموم السلطة والطائفية في أقلام الكثيرين، وتحكّم المال السياسي في الصحافة المقروءة والمسموعة والمرئية، ما جعل أصحاب الرأي المستقل يهرب الى الصحافة الالكترونية. إزاء ذلك نعرف إن أكثر كتاب الرأي، وغالبية المتخصصين في تاريخ الأفكار هم من المهاجرين والفارين الذين تصلهم حوادث وطنهم ببث حزين مُعاق. إن الحالة السياسية والامنية بما تفرضه من سرية تمنع رؤية الصورة كاملة، والحياة الملغومة بالدسائس الطائفية تعيق فهم الواقع بتأويلات خبيثة يقوم بها المصابون بالعته والجهالة.. عندها تتحول الكتابة إلى عذاب.
هل هي صورة قاتمة هذه التي رسمتها عن المساحة التي تعمل فيها الكتابة السياسية؟ ما بين سلطة عبثية وإرهاب يقطع الرؤوس، ما بين التهديد اليومي والروح المهنية، ما بين الشرف والتجارة، ما بين العزلة والخيانة، ما بين الحذر المهني وخفقات الروح. ما رأيكم: أي الوان نستخدم لرسم صورة تتكوم فيها ظلال مكفهرة، وينبض على أطرافها نور شحيح تخطم فيه بين الحين والحين أشباح وتختفي؟
إليكم هذه ايضا: أدوات ومعلومات قليلة، انعدام يقين، إحساس بالعجز، عزلة شديدة، وشخير دم المذبوحين يملأ الفضاء من حولنا. أكثر من هذا يطالبنا لفظيو الأمل الذين لا يناضلون بالأمل ونحن محاصرون في الزوايا. لكن لا أملَ ولا يأس. الكاتب لا يتاجر بالأمل ولا باليأس، بل هو كائن أخلاقي يقدم براهينه إلى جوار براهين الحياة، مدركاً بإحساس خفي ومقلق وحزين وغامض أن لا شيء يبقى ثابتاً، وأعظم الأجسام الصلبة ستغدو هيكلا خاويا. لعلّ الزمن المتقلب يعدنا بشيء ما، بولادة جديدة أو بموت عادي شائع أو بفيضان نوح. الزمن هو اللب المرّ لكل حكاية كُتبت أو لم تكتب بعد، هو المكر الالهي الذي يجعل هذا الذي اعتاد أن يمشي في الارض مرحا يتعثر.
الزمن هو رعود إنليل المخيفة البشائرية!
مقالات اخرى للكاتب