هناك التباس يتسع بشأن "الفضائيين" الذين اكتشفوا مؤخرا في العراق. سبب الإلتباس أن أغلبية الناس، بقدر ما استبشرت خيرا، سلّمت بأن حالة من النكد المرح هي التي اقترحت كلمة "فضائي" لوصف جنود وهميين سجلوا على قوائم الرواتب وتبين بعد التدقيق الحسابي أنهم بلا وجود. واضح أن صفة فضائي جاءت من اللاوجود هذا كضرب من علاقات تشبيه بلاغية. ويبدو أن العراقيين المعتادين على الصور البلاغية، ارتخوا لمرحها وخفة دمها، ونسوا أن الفضائيين ليسوا صفة بل موصوفات محددة، لهم قواعد ثابتة على الأرض، ولا تعدو الضجة الحالية بشأنهم سوى عملية ستار دخان (كومفلاج) لإخفاء القاعدة الرئيسية لهم في العراق، مصنوع من فكاهة ونكد وأكباش محرقة.
أضع لكم مخططا صغيرا يشرح كيف تختفي الأشياء بعد ظهور. فالنكد الذي يستلهم روح البؤس العراقي يصنع فكاهة تحلّق مثل طائر في فضاء متحرر من جاذبية الكوكب، فيظل محلقا، ليختفي مرتين، مرة لأنه توغل في الفضاء، ومرة لأنه تحول الى فكاهة، وانتهت أغراضنا منه، ليدخل الى عالم النسيان البشري الأصيل.
نحن أحفاد ألف ليلة وليلة تسلينا الغرائب والعجائب، فلا نعود ننظر الى ما حولنا. نقبض على صفة أو تقبض علينا صفة، فننسى أصولها ومن يقف خلفها من آباء.
رددوا معي: فضائيون، فضائيون.. فماذا تشعرون وأنتم في بلد يزحف على بطنه بسبب التخلف والأذى والدم المراق؟
اضحكوا، تسلّوا، نكّدوا أكثر على حياتكم، اندفعوا الى البؤس حتى الفرع الأخير، هنجلوا، امشوا كالعرنجل، دغدغوا بطونكم حتى تضحكوا، دقوا الدفوف والطبول والدبادب، ارفعوا رايات العشائر والاحزاب والمليشيات، وسترون أن هذا الاسم النكدي لا هدف له سوى تحويل الغضب والتوتر الى حكاية مرحة، وسيتسلل خلفها الفضائيون الحقيقيون، وسيخفون معهم السر الكبير، النطفة التي جاؤوا منها، طراز الوجود الفضائي الذي حل بيننا ويجري اليوم إخفاء أصوله.
أعتذر مقدما عن الشطط وسوء الفهم، فأنا إزاء غموض استولت عليه سلطة فضائية وراحت تديره بدهاليزها، وتحوله الى نكتة شعبية، مغطية على حواضن بيوض الفضائيين. فضلا عن ذلك أعتقد أن الأمر يحتاج الى عقل مفتوح قادر على تصديق وصول الفضائيين الى كوكب الأرض!
إن ما أريد توصيله هو رسم صورة أخرى للـ "فضائيين" لا تردّهم الى فضاء فارغ، بل الى مصدرهم الحقيقي بوصفهم كائنات غزوا كوكب الارض، واستقروا في العراق، بعد أن فاض بهم كوكب كريبتون الذي يقع على حافة درب التبانة!
إذا كان للفضائيين خيال خصب استطاعوا بوساطته بناء قاعدة لهم في العراق، فسنحتاج الى خيال أخصب، ورؤوس معقدة ذكية، قادرة على فك شفرتهم، وقراءتها لكي نكتشف مناورات السلطات التي أقاموها على أرضنا وسيطرتهم على عقول الأميين الذين باتوا رقما مخيفا في العراق الجديد.
دعوني أولا أنهي الشكوك الناتجة عن إحراق 50 الف فضائي علنا، فهذا ما أسميه بعملية كومفلاج للتستر على الفضائيين الحقيقيين الذين يديرون اللعبة. البعض غررت به غرابة الصفة التي أطلقت على موصوفات غائبة، فاعتقد أنها من اختراعات مذخر شعبي لبيع الاعشاب التي تجعل الخيال محلقا. إن ظرفها، وتلويناتها النكدية، توحي بأنها فولكلورية. لكن للفضائيين معرفة بالفولكلور، وعلى الأكثر يدركون وظيفته الأنيسة التي تخفض التوترات، وتسرب الضغوط ، وتوازن ما بينها. الفضائيون يعرفون أن اليأس المقترن بالقرف وضعف الإرادة والتفاهة والأمية الحضارية والخيانة، وكل الرثاثة العراقية الناتجة عن العنف والفاشية، والمزيد من كل شيء غرائبي وأحمق، أي كل ما كرس لنا لكي نبتلعه غصبا، ييسر عملية إطلاق قاموس للمصطلحات والتعابير التي تفاجئنا في دقتها وعبقريتها. إن العراق أكبر منتج لظواهر ما سماه فرانسيس بيكون في القرن السابع عشر "صنم السوق"، أي المعتقدات الزائفة الناتجة عن تواصل البشر مع بعضهم من تبادل كلمات ومصطلحات عامة يتم تَبنيها برغم زيفها وعُموميتها.
إن نفي الفولكلور عن السلطة ينم عن عدم معرفة بالسلطة، حتى لو كانت سلطة فضائية، ولاسيما سلطة مثلها. مخطئ من يظن أن السلطة بلا تدابير فكهة، بلا ثقافة، بلا إرهاصات واختراعات، بلا طفح لغوي، بلا ثآليل تنفجر في ساعات غير متوقعة.
نحن البؤساء نضحك، لكنهم يمارسون الضحك.. علينا!
إذن أنا لا أنكر وجود حالة نكد أرعن ومرح اقترحت كلمة فضائي لوصف 50 الف جندي مصنوعين من فراغ أبلق تمتلئ بهم مخازن الجيش. لكن من هو المناكد المخترع؟ إنه من يصنع شيئا ويحتاج الى أن يضع له إسما. ومن دون إنكار عامل الظروف، تتولد التسميات الجديدة من مبادئ وظيفية خاصة بهيئة تعمل على التصنيف، ووضع الرزم في خانتها الصحيحة.. وتلك واحدة من مهام السلطة.
تُعد اللغة أم الاختلافات ما أن تعمل في التواصل. لكن ثمة اختلافات اخرى قرينة تقررها مستويات الوجود، الموقع، المنزلة، الأحاسيس الخاصة المتولدة عن تجارب استثنائية. إن السلطة مَخبَر كبير لكل هذا الذي يترجم في النهاية الى لغة، ومستويات من التعابير الطليقة أو ذات الظلال، وأحيانا، بل في الغالب، المضلّة!
أعتقد هنا، وأنا لا أخشى الدفاع عن اعتقاداتي، أن من اخترع هذه التسمية لابد من أن يكون هو نفسه فضائيا، وكان في قمة النكد المرح. من هنا أرى أن هذه التسمية لم تأت من ضمير شعبي ممراح. لم يقترحها خيال شعبي بغدادي، ولا هي من اختراعات عقول شابة قررت الهجرة بعد أن تترك أثرا صاخبا، بل هي سلطوية بالكامل، فيها وعي سلطوي، ممارسة سلطوية، تفكه سلطوي في ساعة سلطوية. وبالطبع لن نكون مخطئين إذا ما قلنا إنها كذلك تفكه بائعي دخان، تجنيسات محاسبين متخصصين بموازنات تسجل فيها المصروفات في خانة الواردات، تأملات في رياضيات الفراغ والفضاء معدة لإزجاء الوقت. السلطة هي كل هذا، ولاسيما سلطة هي من اختراع سلطة اخرى، من تناسل جرى في ليل حالك، خارج الجاذبية الأرضة، مع سيطرة موثوق منها على قوانين الفيزياء.
إذا كانت التسمية سلطوية، حكومية، فعلينا أن نثبت ههنا أن الجنود الفضائيين ليسوا وحدهم، بل تكملهم - إن بحثنا جيدا في أدراج الحكومة - شرطة فضائية، ومخابرات فضائية، وسجون فضائية، وآداب فضائية مكتوبة بلغة فضائية. ثمة حكومة ظل فضائية قامت بتمشية الاوضاع في العراق من كوكب كريبتون الذي يقع على أطراف درب التبانة.
لا تبحثوا في خيالاتكم، لأن الواقع، الخشن، المملوء، الثخين، الوسخ، ذي الامتداد، حسب تعريفات ارسطوية، بات خياليا.
إذن لا تبحثوا عن الفضائيين عند رجل الشارع الذي يصنع لغة جديدة بعد أن يشرب خمسة استكانات شاي تسبب الحموضة في معدته، بل ابحثوا عنهم عند الفضائيين أنفسهم. هم اطلقوا هذه التسمية لكي نتابع بالونها الفكاهي، وانفجاراتها البعيدة عنهم، هم هيئة اركان الفضاء، الضباط الكبار والمخططون، استشاريو الهزائم الذين امتلأت بهم مكاتب القائد العام للقوات المسلحة السابق المتشكل كله من الفضائيين، ومكاتب الداخلية التي تؤجر دكاكين لبيع الذهب في عاصمة أوربية، وبات رئيسها مستشارا، هذا من غير مكاتب الاحزاب والتيارات والمليشيات التي تستهلك الدولة وتحولها الى حنفية.
كلنا عرفنا بوجود فضائيين الا قادة هذا النظام. فما الذي حدث لكي يجري إحراق 50 الف منهم؟ اياد علاوي يرفع أعدادهم الى ربع مليون. لكن علينا أن نتوقع أن كل الارقام المقترحة لا تمثل الا ما يجب حرقه منهم، ولسوف تنجوا الفئات الارستقراطية لجماعة 2003، وكوادر الاحزاب الدينية والاثنية، ورجال الدين الذين صرفت لهم رواتب تقاعدية، والمستشارون الذين يشكلون نظاما كاملا للاستنزاف، بالرغم من أن استشاراتهم جعلت العراق يلبط في وحل موته مثل سمكة مزهورة.
دعونا نكرر السؤال: ما الذي جرى لتكتشف السلطة وجود فضائيين الآن، بينما كان الجميع يعرف بوجودهم؟ قبل أن أجيب أقول إنني أقف بقوة مع السيد رئيس الوزراء حيدر العبادي في هذا الكشف. لقد وردت تسمية الفضائيين بلسانه الا أننا نعرف أنها من الاستخدامات الشائعة في زمن المالكي، وهي واحدة من الاطلاقات العبقرية لخبراء النكبات والمساخر المتوفرين في الاجهزة الاستشارية.
لكن دعونا نمضي في الاجابة عن السؤال السابق. أقول لقد بتنا نعرف الآن أكثر مما مضى، وبالاستناد الى كلمات السيد حيدر العبادي، إن الدولة لم تعد تمتلك نقودا لكي تجيرها لحسابات الفضائيين. إن ما لم يقله رئيس الوزراء الذي بدا حتى الآن بمظهر واقعي رصين، إن الدولة على أبواب الإفلاس، وما لم يقله ايضا إن مجموعة الهنجلة الفضائية الغرباء عن هذه الارض فرهدوا الدولة وهم يتظاهرون بالتدين، وما زال هدفهم التاريخي القضاء على الحداثة والليبرالية والعلمانية.
إن كشفا للحسابات يستدعي، إن أراد السيد العبادي أن يكون عتبة لسياسة جديدة، كشف حسابات سياسية، أي المضمون السياسي للفساد، ووسطه الاجتماعي – السياسي الذي كان يمارس أعمال الابتزاز والنهب وشراء العقارات بأقل من أسعارها، والتحويلات المالية للبنوك في الخارج، أي أن لا يخشى النزول إلى الدهاليز المظلمة المتسترة.
من المؤسف أن رئيس الوزراء لم يقدم كشفا كهذا بعد، ولم يواجه تجربة الماضي بنقد صريح، ولم يكشف ما حصل في زمن رئيس حزبه من مهازل ولصوصية ودناءات ترقى الى الجرائم الكبرى. كل ما استنتجناه من أحاديثه أن الدولة باتت تضغط مصروفاتها. الا يحق لنا إذن أن نعد إحراق الجنود الفضائيين علنا جاء بسبب اضطرارات مالية ولا يشكل سياسة مبدئية للنظام، وفوق هذا جاء للتغطية؟! ماذا عن هيئة أركان الفضائيين وخبرائهم الذين افتقدوا القلب البشري والحميّة؟ إنهم ما زالوا في أماكنهم يديرون نظاما متحررا من الجاذبية الأرضية.. ومن الدين والثقافة والأخلاق.
إن غياب كشف حسابي وسياسي وأخلاقي ووطني عن تجربة الماضي يؤكد نجاح خطط الفضائيين بإفقار العراق، وإن المستقبل الذي ينتظرنا حالك السواد، نظرا لانخفاض أسعار النفط في بلد لا ينتج غيره فضلا عن انتاجه للكذب والدجل والحماقة وادعاء التدين!
تغزو العراق حاليا مجموعة داعش الهمجية التي تحمل رصيد كوكبنا الأرضي من البؤس والتفاهة والعنف والممارسات الدينية المحسوبة على الجاهلية. إذن فلقد أضيفت الى تعقيداتنا الاصلية تعقيدات جديدة، وعلى الناس الذين مازالوا محسوبين على العراق التاريخي أن يتبينوا موضع أقدامهم، فهم محاصرون بين غزوة داعش وغزوة فضائيي كوكب كريبتون!
مقالات اخرى للكاتب