كانت ومازالت واقعة ألطف تمثل انعطافة كبيرة في مسيرة الإنسانية ونقطة تحول في مسار أحداث التاريخ ، نتيجة للزخم الهائل الذي ولدته هذه الثورة العظيمة لدى كل الأحرار في العالم وأصبحت مثالا يحتذي به .. وقد شهدت البشرية الكثير من الثورات والانتفاضات والحركات السياسية والعسكرية التي كان الهدف منها تحقيق غايات وأهداف نبيلة مثل ... محاربة الظلم والباطل ، تحقيق العدالة الاجتماعية ، تصحيح مفاهيم وعقائد دينية تعرضت للتزوير والانحراف ... إلا أن جميعها لم تأخذ المساحة التي احتلتها ثورة الحسين (ع) ، في ضمير ووجدان الإنسانية جمعاء ، والتي امتد صداها عبر القرون الطويلة في أدبيات وتراث الأمم الأخرى بنفس القدر الذي استحضرت فيه بتراثنا وتاريخنا الإسلامي ... غير أن الضمير العربي والإسلامي لم ينصف هذه الثورة وصاحبها أبي عبد الله الحسين (ع) ، سبط الرسول الأكرم محمد (ص) .. كما أنصفها الضمير العالمي والإنساني على اختلاف مشاربه وأديانه ... حتى تحولت هذه الثورة إلى منارة يهتدي بها كل الثائرين على طريق العدل والحرية بغض النظر عن انتماءاتهم العقائدية والفكرية ... والهند بكل تراثها وتاريخها الموغل بالقدم وبالكم الكبير الذي حوته من الأبطال والمحاربين والثائرين الذين مروا عبر هذا التاريخ ، نجد إن الزعيم الهندي الهندوسي غاندي حين أراد أن يطرح مثالا ثوريا للاقتداء به من قبل الشعب الهندي للتخلص من نير الاستعمار البريطاني آنذاك ... استعان بشخصية الحسين (ع) العظيمة ليقول في كتابه ..قصة تجاربي مع الحقيقة ..(على الهند إذا أرادت أن تنتصر أن تقتدي بالحسين ) ... هذا دليل على عالمية هذه الثورة والذي حاول الفكر العربي السلطوي تحجيمها وتسويفها وإخراجها من مغزاها العظيم الذي خرج من اجله الحسين (ع) .. والذي قال فيه مخاطبا أخيه محمد ابن الحنفية ..( لم اخرج أشرا ولا بطرا ولا ظالما ولا مفسدا وإنما خرجت لطلب الإصلاح في امة جدي محمد (ص).. أريد أن أمر بالمعروف وانهي عن المنكر ) .. بهذه الكلمات القليلة جسد الحسين (ع) ، فلسفة ثورته وخروجه على الاستبداد والطغيان ، لذلك جوبهت هذه الثورة المباركة بالبطش والتعتيم والتضليل على مدى التاريخ الإسلامي بنفس القوة والبطش والتضليل الذي جوبه فيه صاحبها من قبل يزيد بن معاوية وعبيد الله ابن زياد في ارض كربلاء ، وأصبح اسم الحسين كابوسا وهاجسا يضج مضاجع الطغاة ، فحاربوا محبيه ومريدين قبره الشريف وناصبوا العداء لكل من ينتمي لهذا الخط والنهج النبوي القويم ... ويروي المسعودي في كتابه مروج الذهب بقوله (وكان آل أبي طالب قبل حكم المنتصر في محنة عظيمة ، وخوف على دمائهم ، وقد منعوا زيارة قبر الحسين(عليه السلام) والغري من أرض الكوفة ، وكذلك منع غيرهم من شيعتهم حضور هذه المشاهد ، وكان الأمر بذلك من المتوكِّل سنة ست وثلاثين ومائتين ، وفيها أمر المعروف بالديزج بالسير إلى قبر الحسين بن علي(عليه السلام) وهدمه، ومحو أرضه وإزالة أثره ، وأن يعاقب من وجد به( ... ويذكر أبي فرج الأصفهاني في كتابه مقاتل الطالبيين ..(لقد وضع المتوكل الحرس والمسالح على الطرق المؤدية إلى قبر الحسين بن علي (ع).. ليمنع محبيه من زيارته ).. أن هذا الخوف من اسم الحسين (ع) وذكراه من قبل سلاطين الجور والسيف ماهو إلا دليل على ديمومة ثورته المباركة واستمراريتها ولعدم قدرتهم على تحجيم مداها الكبير ونزع الولاء والحب من قلوب معظم المسلمين ، لذلك عمدوا على تشويه حقائق ثورته وتحويلها عن مسارها الذي أراده لها الله تعالى ونبيه (ص) لخداع السذج من الناس ..عبر مجموعة من الأحاديث والروايات الباطلة والموضوعة الغرض منها التبرير لبني أمية وأتباعهم قتلهم للحسين وسبيهم لنساء بيت النبوة حتى قالوا عنه ، انه قتل بسيف جده ..فهذا القاضي أبي بكر ابن العربي يقول في كتابه ..العواصم من القواصم ..( ولكنه رضي الله عنه (ويقصد الإمام الحسين (ع)...لم يقبل نصيحة اعلم أهل زمانه وطلب الابتداء في الانتهاء ، وطلب الاستقامة في الاعوجاج ، ونضارة الشيبة في هشيم المشيخة ، ليس حوله مثله ولا له من الأنصار من يرعى حقه ولا من يبذل نفسه دونه .. وإلا وما خرج إليه احد إلا بتأويل ، ولا قاتلوه إلا بما سمعوا من جده المهيمن على الرسل ، المخبر بفساد الحال المحذر عن دخول في الفتن وأقواله في ذلك كثيرة ، منها ما روى مسلم عن زياد قوله ... انه ستكون هنات وهنات ، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان .... ويكمل ابن العربي نظرته حول ثورة الحسين بقوله .. فما خرج الناس على الحسين إلا بهذا وأمثاله من الأحاديث ، ولو أن عظيمها وشريفها وابن شريفها الحسين يسعه بيته أو ضيعته أو أبله ولو جاء وحضره ما انذر به النبي وما قال في أخيه ) .. أن هذا الطرح المغلوط والمنحرف الذي فسر فيه ابن العربي وغيره من الأقلام المأجورة لم يأتي اعتباطا أو من فراغ وإنما هو نهج أسست له السلطتين الأموية والعباسية لخداع الأمة وتضليلها عن الأهداف والمرامي السامية والعظيمة التي أراد الإمام الحسين (ع) أن يوصلها للأمة والإنسانية جمعاء في الثورة ضد الظلم وعدم الاستكانة والخنوع للظلمة وان قل الناصر والمعين ، فنزوله إلى ميدان الحق في عرصات كربلاء بهذه الثلة القليلة من أهل بيته وأصحابه وهو يعلم ما ستؤول إليه الأمور بخروجه هذا بجوابه لأخيه محمد بن الحنفية حين سأله العدول عن الخروج إلى الكوفة ...كما جاء في كتاب الملهوف على قتلى الطفوف للسيد ابن طاووس ...(أتاني رسول الله (ص)... بعدما فارقتك ، فقال .. ياحسين اخرج فان الله قد شاء أن يراك قتيلا... فقال ابن الحنفية ... إنا لله وإنا إليه راجعون ، فما معنى حملك هذه النسوة وأنت تخرج على مثل هذا الحال ..؟..فقال الحسين .. قال لي جدي ..أن الله شاء أن يراهن سبايا ).. إن هذا اليقين الذي تعامل معه الإمام الحسين (ع) ومعرفته لنتائج الأمور والتصرف على أساسها برغم مأساويتها هو دليل على انه كان مدرك لخطورة الوضع الذي كانت تعيشه الأمة ، وإنها بحاجة إلى هزة عنيفة توقظها من نومها وغفلتها ومن الخنوع والاستكانة التي أدمنت عليها منذ حكم معاوية بن أبي سفيان .. وان هذه الصحوة المنشودة من قبله للأمة الإسلامية لايمكن حدوثها إلا بأن يجعل نفسه الزكية وأهل بيته الكرام أضاحي على درب الشهادة والإباء ... وان يهز ضمير هذه الأمة برؤية نساء النبوة وبيت الرسالة سبايا ... يطوف بهن أدعياء الأرض وشرارها في المدن والأمصار ... وبالفعل فقد تحقق ما كان يصبوا إليه ، وأوقد بثورته ووقوفه بوجه الباطل جذوة كانت قد انطفأت بالإسلام روحا وفكرا ، فكانت نقطة الشروع لكل الثورات والحركات المسلحة التي خرجت على نبي أمية وبني العباس وقاتلت ضد الظلم والاستعباد في تاريخنا الإسلامي ، ودوى صدى مقولته وهو يقف على رمال كربلاء مواجها جيوش الرذيلة والانحطاط ..( والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل .. ولا افر فرار العبيد ) في أصقاع المعمورة ..هذه الصرخة التي استلهمها أحرار الأرض وثوارها لتكون شعارا ونهجا لهم على درب الحرية .. ومن شواهد عالمية هذه الثورة أن تشي جيفارا الثائر اليساري الكبير قد جعل من ثورة الحسين نهجا وأسلوبا ناجعا لمواجهة الطغاة والمفسدين بقوله ..(على جميع الأحرار في العالم لاقتداء بتلك الثورة العارمة التي قادها الزعيم الصلب الحسين العظيم والسير على نهجها لدحر زعماء الشر والإطاحة برؤوسهم العفنة )... إن الاستحضار القوي لذكرى الحسين (ع) ... في كل عام وعلى امتداد أربعة عشر قرن وبنفس المشاعر الحزينة والحماسة المتقدة من قبل محبيه ، هو ضرورة دينية وسياسية وأخلاقية ، الهدف منها هو استلهام القيم والمبادئ التي استشهد من اجلها هذا الإمام العظيم وأهل بيته وأصحابه ، لتكون نبراسا ينير درب السائرين على طريق الحق والعدل والحرية ، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا .