أطلق نائب رئيس الجمهورية السابق نوري المالكي سلسلة من التصريحات مؤخرا عبر لقاءات تلفزيونية حاول ان يدافع خلالها عن نفسه وعن فترة حكمه التي امتدت لمدة ثمان سنوات. تناول المالكي مختلف الملفّات الحساسّة التي تشغل بال المواطن العراقي, كملف الإرهاب وملف الفساد واصلاح العملية السياسية وغيرها من الملفّات الساخنة.
حاول المالكي أن يدعم إدعاءاته ويظهر موضوعيته عبر استخدام لغة الأرقام لكن تلك اللغة خانته بل وأنها كانت وبالا عليه كما سأوضح لاحقا في هذا المقال. ولايبدو أن المالكي يجيد لغة الأرقام فهو “بليد” كما وصفه أحد المفكّرين العراقيين المعروفين, كما ويبدو أن مستشاريه لا يجيدون لغة الأرقام أيضا, وإلا لما وقعوا في تلك التناقضات التي سأوضحها.
وقبل الخوض في ذلك لابد من التنويه الى أن وصفي للمالكي بالمارق ليس تحاملا عليه, ولكن لقناعة راسخة في النفس بأنه مرق عن الأهداف التي أسّس المرجع الشهيد محمد باقر الصدر , حزب الدعوة من اجل تحقيقها, ومرق عن مباديء الثورة الحسينية وسيرة أهل البيت التي طالما تشدّق المالكي بالسير على هداها, ومرق عن القيم الديمقراطية التي إنطلقت العملية السياسية الحالية وفقا لها, ولذا فهو يستحق لقب المارق بلا منازع او مدافع.
ولابد كذلك من تسجيل ملاحظة هامة على تصريحات المالكي المتعلقة بالإنفاق الحكومي خلال سنوات حكمه, فإن الأرقام التي أوردها المالكي بمثابة حسابات ختامية لأعوام حكمه , فتلك الأرقام كان على المالكي تقديم مثلها كل عام الى البرلمان, لكنه لم يقدّم الحسابات الختامية لحكومته طوال سنوات حكومته الثمان بالرغم من المطالبات البرلمانية.
وهنا يطرح سؤال مشروع نفسه وهو لم لم يفعل المالكي ذلك؟ وإن كان قد فعل اليوم عبر إستعانته بمؤسسات حسابات فاشله أنفق عليها الملايين من الدولارات لأجل تبييض صفحته السوداء فعليه إن كان صادقا ان يقدم هذه الأرقام الى البرلمان كي تتم مناقشتها وبيان مدى صحّتها وإن كانت تبدو وللوهلة الأولى ولكل من لديه المام بعلوم الرياضيات واطلاع على الموازنات العراقية طوال السنوات الماضية , ان يعرف مدى ابتعادها عن الحقيقة وكما يلي:
أولا: حاول المالكي أن يخلط الأوراق عبر تقديم حسابات تتعلق بعشر سنوات من حكم العراق ومنذ العام 2004 وحتى العام 2010 في محاولة للتهرب من إطلاع العراقيين على حجم الأموال العامة التي أهدرها طوال سنوات حكمه. ورفعا لهذا التدليس فلابد من الإشارة الى أن موازنة العراق بلغت 14 مليار دولار عام 2004 و 18 مليار دولار عام 2005 أي ان مجموعهما 32 مليار دولار لا غير.
أولا : إدعى المالكي أن مجموع ما صُرف على الرواتب خلال مدة عشر سنوات بلغ 550 مليار دولار وادعى صرف مبلغ 185 مليار دولار على المحافظات خلال ذات الفترة, وادعى دفع مبلغ 119 مليار على اقليم كردستان ثم إدعى ان مجموع ما تم صرفه على العراق خلال تلك السنوات بلغ 710 مليار دولار! واذا جمعنا المبالغ أعلاه فيكون المجموع 854 مليار دولار! وهذه اول مغالطة.
ثانيا: لم يتطرق المالكي الى الفساد الذي طال الموازنة التشغيلية وخاصة على صعيد الرواتب. فالفضائيون في العراق لا يعدون ولا يحصون وأما المناصب التي منحها لأعوانه والمطبلين له من مستشارين ومدراء عامين ووكلاء ورتب عسكرية فلا تعد ولا تحصى, إذ أنفق عليهم المليارات من الدولارات بالرغم من فشلهم على جميع الصعد. ولم يتطرق المالكي الى حجم الفساد في رئاسة الوزراء التي تبلغ مصاريفها السنوية اكثر من مليار دولار, ولم يحدّثنا المالكي عن المنافع الإجتماعية لها. ولم يتطرّق المالكي الى أراضي الدولة العراقية وعقاراتها في الخارج والداخل والتي تم نهبها وتقسيمها على اعوانه مثل مجمع القادسية وجامعة البكر وغيرها وهي التي تبلغ قيمها المليارات من الدولارات, فهل له ان يخبر العراقيين عمن اشتراها وبأي ثمن؟
ثالثا: إدّعى رئيس الوزراء السابق أنه تم دفع مبلغ 30 مليار للدائنين في نادي باريس ومبلغ 35 مليار دولار كتعويضات لدولة الكويت. وإذا أضفنا هذا المبلغ الى المبلغ أعلاه فيبلغ المجموع الكلي 919 مليار دولار وإذا ما حذفنا منها مبلغ 32 مليار دولار مجموع موازنات العراق للعامين 2004 و 2005 , فيكون مجموع المصاريف خلال فترة حكمه فقط مبلغ 887 دولار. وهذا المقدار قريب من إدعاءات بانفاقه ل 1000 مليار دولار طوال سنوات حكمه والذي طالما أشرنا اليه في مقالاتنا السابقة, وهو الرقم الذي كان وما يزال يصر المالكي واعوانه على إنكاره, لكن الأرقام التي أوردها تثبت العكس.
رابعا: تلك الأرقام التي ذكرها المالكي تطرقت فقط الى الموازنة التشغيلية وليست الإستثمارية فهلا يخبرنا عن الموازنة الإستثمارية؟ في العام 2014 بلغ حجم الموازنة العامة 145 مليار دولار وهي التي أُطلق عليها اسم الموازنة الإنفجارية وتم تخصيص 53 مليار دولار منها للموازنة الإستثمارية. وفي العام 2013 كانت الموازنة الإستثمارية 46 مليار دولار, وبلغت في العام 2012 قرابة 37 مليار دولار و30 مليار دولار في العالم الذي سبقه و17 مليار دولار عام 2010 وبذلك يكون مجموع الموازنات الإستثمارية خلال ولاية المالكي الثانية 183 مليار دولار امريكي. وأما الموازنات الإستثمارية للأعوام بين 2006-2010 فبلغت 98 مليار دولار وفقا لبيانات وزارة التخطيط العراقية.
وبذلك يكون مجموع الموازنة الإستثمارية خلال سنوات حكم المالكي الثمانية 281 مليار دولار.
خامسا: إدعى المالكي صرف مبلغ 185 مليار دولار على المحافظات طوال تلك السنوات ويبدو أنه يقصد أن تلك المبالغ تم صرفها من الموازنة الإستثمارية فيكون المتبقي من مجموع ال 281 مليار دولار مبلغ 96 مليار دولار لم يخبرنا المالكي أين سلكت طريقها, وماهي المشاريع التي انفقت عليها, وهل تمكن حل أزمة واحدة من ازمات العراق بها.
إن هذا الإدعاء بصرف مبلغ 185 مليار دولار على المحافظات كذب محض, فإن مثل تلك المبالغ تحل كافة ازمات العراقي الخدمية والأمنية, فالعراق يكفيه مبلغ 20 مليار دولار لحل أزمة الكهرباء وأقل منه بكثير لحل أزمة المياه والصرف الصحي . ولو تنزلنا ووافقنا المالكي على قوله ان العراق بحاجة الى 400 لإعماره فإن مقدار 281 مليار دولار التي أنفقها المالكي طوال سنوات حكمه على بناء العراق يفترض ان تكون حلت ثلاثة أرباع أزمات العراق لكنه فشل في حل عُشر تلك الأزمات.
سادسا: إدّعى المالكي بأنه لم يكن قائد ضرورة , لكن أفعاله وتصرفاته تثبت عكس ذلك, فلقد انتشرت صوره في كافة مرافق العراق وهي الممارسة التي تذكر بالقائد الضرورة , والمالكي تجاوز حتى القائد الضرورة عندما احتفظ بقيادة القوات المسلحة ووزارتي الداخلية والدفاع ورفض إشراك حتى حلفائها في التحالف الوطني في إدارة الملف الامني في البلاد, وأدار العراق بنفس دكتاتوري مقيت عطّل فيه مجلس النواب العراقي الذي فشل في استجوابه وحتى استجواب ابسط ضباطه العسكريين.
والمالكي خرق اتفاقية اربيل التي أفضت لتشكيل الحكومة, وسخّر السلطة القضائية لتفسير الدستور حسب هواه عندما خسر انتخابات العام 2010. كما وانه منح إبنه وصهريه وأقاربه ذات الصلاحيات التي كان يمنحها القائد الضرورة لعدي وحسين كامل, بل إنه منح سلطات واسعة لسائقه أيام المعارضة الذي أصبح آمرا ناهيا في رئاسة الوزراء.
وهيمن إئتلاف المالكي على كافة الوزارات السيادية في البلاد ولم يترك للقوى الأخرى من وزارة سوى الخارجية , فضلا عن هيمنته على الهيئات المستقلة والسلطة القضائية. وظل المالكي متشبثا بكرسي الحكم حتى النفس الأخير بالرغم من نبذ مختلف القوى السياسية له وبالرغم من معارضة المرجعية العليا لبقائه في منصبه , فكيف يكون شكل القائد الضرورة؟
سابعا: قال المالكي بأن هذه المرة ليست الأولى التي تنخفض فيها أسعار النفط , ولكن الواقع يقول عكس ذلك , فهي المرة الأولى التي تنخفض فيها أسعار النفط بهذا الشكل ومنذ منتصف الثمانينات واما طوال سنوات حكم المالكي فقد تراوحت السعار بين 70 ولامست حاجز ال 120 دولار للبرميل الواحد. واما اليوم فهبطت الى حد ال 40 دولار اي الى قرابة النصف لأقل سعر لها في عهد المالكي. لكن المالكي يحاول أن يلقي باللائمة على الحكومة الحالية بالتسبب في الأزمة الإقتصادية الحالية , غاضّا البصر عن الفساد والفشل المتراكم في عهده والإنخفاض الحاد في اسعار النفط الذي تسبب بأزمات في دول الخليج فكيف بالعراق!
ثامنا: طالب المالكي بتقديم كبار الفاسدين الى القضاء ! وتلك مطالبة مضحكة تبعث على السخرية! فهل يريد المالكي القول أن حيتان الفساد نشأت في ظل حكومة العبادي التي إنخفضت في عهدها عائدات العراقية النفطية الى النصف؟ أم أن حيتان الفساد ترعرعت في ظل سنوات حكمه الثمان؟ وإن كان المالكي صادقا في إدعائه فلم قبل استقالة فلاح السوداني منعا لأستجوابه في البرلمان, ولم سمح له بالهرب من البلاد, ولم كرّمه بمنحه دارا في منطقة المحيط ببغداد؟ لن أتطرق الى ذكر الفساد في وزارة الكهرباء في عهد وزيره الناجح كريم وحيد ولا وزارات النفط والشباب والاعمار والمالية والتعليم والاتصالات والداخلية والدفاع والأمن الوطني والنقل, ولا الهيئات المستقلة كالمصرف المركزي وهيئة الإستثمار وشبكة الإعلام وغيرها من المؤسسات التي هيمن عليها إئتلاف دولة القانون طوال سنوات حكمه. فتلك المؤسسات كانت بؤر الفساد في العراق وأما كبار الفاسدين فهم من وقفوا على رأسها طوال السنوات الماضية.
تاسعا: حاول المالكي ان يلقي بسؤولية ظهور تنظيم داعش الإرهابي على إعتصامات الأنبار وفي ذلك سذاجة او تدليس ما بعدهما تدليس. فمن المعلوم ان تنظيم داعش الإرهابي ظهر في سوريا وأنه تمدد الى العراق عبر محافظة الموصل التي لم تكن فيها خيمة للمعتصمين, وظلت الأنبار عصية على التنظيم وحتى أواسط هذا العام. وقد سبق داعش تنظيم القادة المتواجد في العراق ومنذ سقوط نظام صدام حسين. ولو سلمنا بوجود مؤامرة خارجية ادت الى دخول داعش الى العراق ولا احد ينكر ذلك, فماكانت استعدادات المالكي للوقوف بوجه المؤامرة؟
إن مؤامرة يقودها بضعة مئات من الأشخاص نجحوا في احتلال ثلث العراق والوصول الى مشارف العاصمة بغداد, تثبت مدى فشل وعدم اهلية وكفاءة المالكي في إدارة البلاد فهل يعقل ان دولة فيها جيش مليوني وأنفقت 200 مليار دولار على الأمن تفشل في صد هجوم لبضعة مئات من التكفيريين؟
عاشرا: أراد المالكي أن يظهر نفسه بمظهر المعارض للولايات المتحدة الأمريكية وسياساتها متناسيا أنه لولا البسطال الأمريكي لما أصبح رئيسا للوزراء ومتناسيا أنه وطوال سنوات ولايته الأولى كان عبدا مطيعا لأمريكا منفذا لأجندتها في العراق الى الحد الذي ضرب فيه فصائل المقاومة في البصرة والى حد تهديده برفع ملف سوريا “العضو في محور المقاومة” الى مجلس الأمن الدولي بعد تفجيرات العام 2010 التي ضربت بغداد قبيل الإنتخابات. لكنه غيّر وجهته بعد خسارته لأنتخابات عام 2010 بعد أن إحتفظ بمنصبه بسبب الدعم الإيراني له والذي أجبر منظمة بدر والتيار الصدري على تأييده. وهكذا بدأ المالكي رحلة الإرتماء في أحضان ايران لا لأيمان بمحور المقاومة بل لإيمان راسخ في قرارة نفسه بأنه لن يتمكن من الإستمرار في حكم العراق بلا دعم من لدن إيران.
إحدى عشر:
حاول المالكي أن يقدّم النصح للحكومة الحالية وأن ينصّب نفسه مرشدا لها عندما دعا الى تقليل الإعتماد على النفط, والسؤال الذي يطرح نفسه هو ماذا فعل المالكي في هذا الطريق طوال سنوات حكمه الثمانية؟ هل اكتفى العراق في عهده ذاتيا على صعيد الزراعة؟ او على صعيد الصناعة؟ وهل تم الإهتمام بقطاع التعليم الذي يعتبر حجر الزاوية في عدم الإعتماد على النفط؟أم إنه اعتمد على الجهلة والأغبياء من أصحاب الشهادات المزوّرة الذي ملأ بهم رئاسة الوزراء؟ ام إن العراق تحول في عهده الى دولة مستهلكة من الطراز الأول في عهده؟ وهل كانت للمالكي خطة لإستثمار الخيرات التي حبا الله العراق بها والتي تغنيه عن النفط كالزراعة والثروات المائية والحيوانية والمناطق السياحية والآثار والمراقد المقدسة والمعادن والمنافذ التجارية فضلا عن الموارد البشرية؟ كفى بالمرء أن يكون واعظا لنفسه قبل ان يعظ غيره.
إثنى عشر:
تطرّق المالكي الى دعمه للقطاع الخاص فعن أي قطاع خاص يتحدث؟ وهل بقي قطاع خاص في العراق سوى قطاع المصارف المرتبط به وباعوانه؟ أم أنه يقصد الشركات الوهمية المسجلة باسم أقاربه وأعوانه؟ ام عن إستثماراتهم الخارجية في مختلف دول العالم؟ ام عن شركاتهم العقارية في دبي ولبنان وبريطانيا وايران؟ نعم لقد كان المالكي داعما لهؤلاء بل وسخّر لهم موارد الدولة العراقية كافة تاركا العراقيين يئنون تحت قيض الصيف ورحمة الإرهاب.
ثلاثة عشر: إدعى المالكي انه يدعم الحكومة الحالية وأنه يدعم الإصلاحات لكن ممارساته وممارسات إئتلافه تكذّب ذلك. فهو ناصب حكومة العبادي العداء ومنذ ولادتها, وسعى أعوانه وطوال الاشهر الماضية الى إفشالها والنيل منها وسخروا وسائل إعلامهم لتسقيط رئيسها واصفين اياه بالمتآمر والضعيف والإنبطاحي. ولازال المالكي يرفض قرار طرده من رئاسة الجمهورية معتبرا القرار غير دستوري, ولازال المالكي يحتل القصر الرئاسي ويثقل كاهل الموازنة العراقية بحماياته. وهو يهدد بإقالة العبادي فعن اي دعم للحكومة يتحدث المالكي؟
إن أكاذيب المالكي وتدليسه ومغالطاته لن تنطلي الا على السذّج والبسطاء, وهي محاولة يائسة لتبييض صفحته السوداء وإعادة تأهيله. لكنها تفتح الباب واسعا امام محاسبته هو وأعوانه. إن السلطات الثلاث مطالبة اليوم وبعد تصريحات ودعوات المالكي بمايلي:
أولا: على مجلس النواب مطالبة المالكي بتقديم الحسابات الختامية لسنوات حكمه والتحقق من صحتها, فهذه الأرقام التي طرحها على وسائل الإعلام تثبت وجود تلك الحسابات.
ثانيا: على السلطة القضائية وهيئة النزاهة الإستجابة لنداء المالكي والمبادرة الى القاء القبض على حيتان الفساد .
ثالثا: إن الحكومة العراقية وخاصة وزارة التخطيط مطالبة بالرد على الأرقام التي ذكرها المالكي حول الموازنة وبيان حقيقة الأمر للشعب العراقي.
وختاما فإن تصريحات المالكي هذه تبين وبشكل جلي ان حبّ الكرسي قد هيمن على نفسه, وأنه ينتظر الفرصة للأنقضاض على رئاسة الوزراء والعودة بالعراق الى أيام الدكتاتورية ووقف مسيرة الإصلاح ولذا فإن السلطات الثلاث والقوى الوطنية مطالبة بأن تطلق رصاصة الرحمة على أحلام المالكي وطموحاته الغير مشروعة, فهو يريد الإجهاز على ما تبقى من العراق عبر تسليم ما تبقى منه لقوى الإرهاب التي انهزم امامها, وتشريد الشعب العراقي في أنحاء الأرض.
مقالات اخرى للكاتب