لم يكن نشوء داعش في ولاية الانبار وتحول البعث الى داعش وانتصار داعش في العراق محض مؤامرة دولية واخفاق في النظام السياسي العراقي فحسب ،بل هو نتاج طبيعي لانهيار القيم الحضارية والإنسانية والوطنية والأخلاقية والثقافية لدى المواطن والمثقف العراقي وإعادة انتاج متطور لهذا الانهيار. ان اختلال الأنومي أو اللامعيارية والتي تعني حسب دوركهايم اللا قانون واللا قاعدية وتنم جميعها عن في التركيب الذي يؤدي إلى حالة اللانظام أو اللاقانون وإلى افتقار مفهوم السلوك إلى القاعدة والمعيار التي يمكن بها وبناء عليها قياس أو تميز السلوك السوي عن السلوك غير سوي ،ونلاحظ ذلك بوضوح في عراق الفساد الإداري حين يتحول الثائر الى لص والمعارض الضحية الى دكتاتور طاغية وموسى الى فرعون ،وحين تصبح اللصوصية شجاعة وبطولة والوطنية تعصب طائفي او شوفيني دموي اعمى والعمالة لامريكا والخليج الرجعي الى ثورية تحررية تقدمية وطنية. والمعتقدات والقيم في حالة انتشار حالة اللامعيارية تصاب القيم و الأعراف والقوانين في المجتمع بالضعف والوهن الى حالة تكاد تكون فيها منعدمة وتفتقد بذلك القاعدة التي تعتمد عليها بسبب عدم القبول أو عدم جدواها والقناعة بها وبالتالي يحدث قلق وتوتر لدى الفرد وبالتالي ارتباكه أو عزلته عن المجتمع او تجعل التغييب للفرد والنخبة والاهمال والتهميش والقمع ظاهرة اجتماعية سائدة ورغم انه ةفي المجتمعات الرعوية و الريفية التقليدية تتحقق عناصر التضامن والوعي من خلال وسائل الضبط الاجتماعي الغير رسمية(الانتماء العشائري) وقيم كايزما القائد العظيم الأوحد صانع التاريخ الا ان الطفرة الحضارية الاستهلاكية للعراق في عصر النفط لم تكن مصوحبة باي تطور حضاري على صعيد علاقات الإنتاج او على صعيد نمو الطبقات والعلاقات الاجتماعية بشكل عام وذلك بسبب من طبيعة الاقتصاد الرعوي والاستهلاكي للعراق والتي كانت فيه الدولة هي الاب الراعي للشعب والنفط هو المصدر الرئيس للدخل القومي ،ولان انهيار الدولة العراقية وضعفها الحالي أدى الى حالة من التخندق الدفاعيية السلبية للفرد في انتمائه الطائفي والعرقي دفع القوى السياسية الى التصارع السلبي والضاربكيان الوطن والدولة من اجل مزيد من النفوذ فكان عامل الخوف والرعب والابتزاز والاستغلال وعدم الثقة هو السائد ليس في علاقات القوى السياسية فيما بينها وحسب بل وفي علاقات الدولة بالشعب ومكونات الشعب فيما بينها بل وفي علاقة الوحدات الاجتماعية الصغيرة كالاسرة مما عمق الفجوة بين المجتمع والفرد والدولة والشعب والمؤسسة الدينية المعتدلة والشعب وتسبب في اخفاق مؤسسات المجتمع المدني من ان تشكل لوبي حقيقي ضد النظام السياسي الفاسد حكومة وبرلمانا فاصبحت العشيرة والطائفة والعرق والمؤسسات الدينية المعتدلة والاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني والنخبة المثقفة والقادة في حالة عجز عن اتخاذ وتحقيق القرارات و المواقف التاريخية الحاسمة مما دفع الأغلبية منها الى ان تخضع للضغوط الأجنبية والتدخل الأجنبي في العراق لتصبح بذلك جنودا لمؤامرة دولية اريد بها القضاء على كيان العراق ووحدته. وحين ان المجتمعات العضوية الغربية ( المدنية الحضرية ) يكون من الصعوبة فيها تحقيق الاتفاق في المعتقدات المتباينة ولذا لا بد من سن قوانين مدنية وإشاعة وتكريس قيم مدنية ليبرالية او علمانية تنظم الكيفية التي يتم بها التعامل بين الأفراد والجماعات وفي تلك العملية الانتقالية ان كانت على نحو طفرة انفعالية لحرق المراحل في هذه المرحلة يصل المجتمع إلى حالة من الفوضى واللانظام واللامعيارية واللاقاعدية كما حدث في ستنيات وسبعينات أمريكا واوربا من ثورة شباب الهيبيز وحركات الحقوق المدنية للاقليات و للسود ويشبه هذا الامر ما حدث في العراق بعد السقوط عندما استبدل نظام دكتاتوري باخر ديمقراطي حاول اللحاق بالركب الحضاري لكن على نحو النظام الاستهلاكي.
داعش انتحار القيم المعنوية
نظرية اللامعيارية: هي من أبرز إسهامات عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم، وتعنى انعدام قواعد ومعايير السلوك الواضحة. قام روبرت ميرتون بتعديلها لتشير إلى التوتر الذي يوضع على سلوك الفرد عندما تتناقض القواعد الاجتماعية (أن تصير غنياً مثلاً) مع الواقع الاجتماعي (كون أنك فقيراً). حدد ميرتون خمسة أنواع من ردود الفعل نحو هذا التناقض هي:
الامتثال، الاختراع، الطقوسية، الانسحاب والثورة.ويرى دوركهايم ان الانتحار القيمي يحدث عندما يصاب المجتمع بالانحلال والتفكك أو اللامعيارية حيث تختفي القيم أو تتعارض وتتناقض ويرتفع مستوى القلق والرعب والإرهاب وتعم الفوضى والتذبذب ومن أنواع الانتحار التي تحدث عنها(الانتحار الأناني الناتج عن العزلة وعدم الانتماء والانتحار الناتج عن اللامعيارية والقلق وكذلك الانتحار الناتج عن الأثرة والتعلق بهدف معين أو قيمة اجتماعية معينة) ولقد تحدث ( دور كايم ) عن فكرة أن تأكيد التكافل والتضامن في المجتمع يؤدي الى انخفاض معدلات الجريمة المنظمة (ومنها إرهاب داعش في العراق انموذجا) والتي تعد مشكلة اجتماعية واكد ان العقاب الحاسم للجريمة من عناصر التكافل والتضامن الاجتماعي (وطبعا من خلال التصدي الحاسم للارهاب في العراق عسكريا واعلاميا وتعبئة تثقفية) والا فان شعور الغالبية بالعزة والتفوق والتوحد والتكافل ان لم يتم ذلك سينهار بل وسيكون لمافيا الجريمة الاجتماعية المنظمة وللارهاب المنظم الدواعي الأقوى في البقاء والنمو نتيجة التمزق والتشرذم ،ولاجل منع ذلك سعت داعش الى الحصول على غطاء دولي من خلال الإيحاء بانها ليست عدوة الا للشيعة والأقليات ولا تلحق ضررا بمصالح أمريكا وإسرائيل وسعت عن طريق البعث الى الحصول على نفوذ وحصانة قانونية من السلطة البرلمانية والتنفيذية لمنع القصاص بالإرهابيين بل والتامر لتهريبهم واعاقة ان اجراء عسكري ضدهم تحت ذرائع طائفية. ومن أهم إسهامات قدمها العالم روبرت ميرتون هو تناوله ما أسماه بالوظائف الكامنة والغير مباشرة والوظائف الظاهرة وهنا يتجلى ما أضافه ميرتون على بارسونز الذي اكتفى بتناول الوظائف الظاهرة والمباشرة والملاحظة للظاهرة الاجتماعية دون التطرق للوظائف المستترة
وفي لأنماط الوظيفية عرض ميرتون بصورة رائعة العلاقة بين الأهداف الثقافية والمجتمعية والوسائل التي تتيح تحقيق تلك الأهداف وتحدث عن أنواع عديدة وأشكال مختلفة كالامتثال والانسحاب والطقوسية والابتداع والتمرد.
البدائل الوظيفية: ويقصد بها عدم التسليم المطلق بفكرة الوظيفية التي قد تظهر في بناءات وأنساق اجتماعية معينةو
ويرى ميرتون أن الانحراف يحدث حينما يحدث تعارض بين الوسائل التي يحددها البناء الاجتماعي والأهداف التي يحددها البناء الثقافي للمجتمع.
ويحدد ميرتون خمسة انماط لتفسير الانحراف وهي :.
النمط الاول الملتزم
أي قبول الوسائل والاهداف السامية السلمية من قبل الافراد ويعد هذا النمط نمطاً سوياً من وجهة نظر ميرتون وهم اكثر افراد المجتمع الا انهم فئة مغيبة مهمشة معطلة في العراق وهم الأغلبية الصامتة.
النمط الثاني :البراغماتيون الانتهازيون :وهم الذين تكون لديهم الغاية تبرر الوسيلة ، بحيث يبتكرون وسائل غير مشروعة تحقق أهدافهم فمنهم الطائفيين الإرهابيين والاثنينين الشوفيينن الذين يسعون الى تجزئة العراق او الابتزاز السياسي عن طريق الإرهاب الطائفي ومنهم الحكام الوطنيين في العراق كافراد محدودين يحاولون الحفاظ على وحدة العراق والقضاء على الإرهاب بوسائل متواضعة محدودة عن طريق تقديم التنازلات والمساومات والمحاصصة واستخدام النفوذ الأجنبي في الصراع حول السلطة.
النمط الثالث :الطقوسيون : وهم يرفضون الاهداف ،ويقبلون الوسائل على عكس النمط السابق ومنهم الطائفيون المتعصبون من أصحاب الفكر الإرهابي الدموي والاثني الشوفيني القائم على إبادة الاخر والقضاء على الغير
النمط الرابع :الانسحابيون : . وهم ممن ينسحبون من المجتمع (مثل الفسدة الإداريين و مدمني المخدرات والدعارة حتى ينظموا انفسهم في عصابات مافيا منظمة لحمايتهم او يلجئون الى غطاء سياسي للدفاع عنهم )
- النمط الخامس :الثائرون أو العصاة والمتمردين :يرفضون قيم الانهيار في النظام السياسي ويسعون لكي يستبدلوها بقيم أو وسائل واهداف جديدة اكثر إنسانية واخلاقية وحضارية وثورية (وهم اقرب للثقافة المضادة للنظام السياسي ) وهم يرون ان الدعوة الى المصالحة الوطنية وتفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني أفكار طوباوية لا تخدم الا شرعنة التنازل امام التطرف الطائفي والاثني. ومنهم من يتصدى للارهاب عسكريا الان من منظمات تعمل تحت لواء الحشد الشعبي. لقد ساهم اعلام التحريض الطائفي والاخطاء الحكومية في التعامل مع حالة الاحتقان الطائفي واعلام الرعب الإرهابي وانهيار العلاقة بين سكان الحواضن الإرهابية والمؤسسة الأمنية والحكومة المركزية والمحلية والفساد الإداري والتدخل الأجنبي الإرهابي و اخفاق التعبئة الثقافية ضد الإرهاب في تعزيز انهيار القيم لصالح الإرهاب الداعشي مما أدى الى هزيمة العاشر من حزيران 2014في الموصل امام داعش.
مقالات اخرى للكاتب