عام 1991كان هو عام (يا محلى النصر بعون الله) بعد أن راح ريسنا يبشرنا بنصر لا يعلم سره إلا المدلل حينها العريف الركن حسين كامل. وقتها كنت اسكن الغزالية وكان أخي الأصغر طبيبا في أربيل ومتزوجا من سيدة كردية وقد فتح عيادة هناك وإستقر في المدينة قبل ان ينضم إلى ماراثون الخائفين من كيمياوي علي الكيمياوي الذين توجهوا وقتها في مسيرة مليونية خائفة وجائعة نحو الحدود التركية.
قررت أختي وزوجها التي تسكن إلى الجوار منا في حي الخضراء أن يحملا أولادهما في سيارة البرازيلي مغادرين بغداد نحو أربيل لقضاء أيام بلا صوت القاذفات الأمريكية من النوع ب 52 والتي كانت تنبئنا عن قرب وصولها إلى أجواء بغداد هزات الشبابيك التي تبدأ بالإرتعاش قبلنا . ومن قال أن الشبابيك لا تخاف ؟
لم أكن أفكر في مغادرة داري, فالغزالية رغم أنها ضمت دورا لموظفي هيئة الرئاسة والدوائر الأمنية إلا انها لم تشهد قصفا كذلك الذي شهدته مناطق متفرقة من بغداد بسبب وجود مؤسسات ذات قيمة إستراتيجية. لكن ثمة أمر صار حينها مصدر للقلق وهو وجود عدد من مسؤولي الحزب والدولة في مدارسها إبتعادا عن مراكز عملهم التي إستهدفها القصف, وقد اشار بوش الإبن حينها إلى هذا الأمر مؤكد على أن تلك المدارس قد تصبح أهدافا للقصف لأنها باتت مكانا لتجمع المسؤولين والأسلحة.
إستجبت لضغوط زوجتي التي بدأت تلح علي بالمغادرة نحو أربيل فهي تعتقد أن لي حصة في أخي وليس من الحق ان تستولي الأخت على كل الحصة. بذلك وجدت نفسي في مواجهة حربين, واحدة من الجو يديرها بوش الأب وثانية من الأرض تديرها زوجتي, وكان من الطبيعي أن أنهزم في الحرب الثانية على خلاف الأولى الذي كنت معها واثقا من النصر الحلو الذي وعدنا به الريس.
كان بيت أخي إلى الجوار تماما من مرسلات البث التلفزيوني. يومها لم تكن أربيل قد شهدت اي قصف وما كانت شبابيكها عرفت لغة الخوف مثل شبابيكنا البغدادية, وبعد يومين من النوم الهادئ والعميق وسعادة لا يعرف قيمتها إلا الجندي العائد من خنادق الحروب الأمامية أو الشالع من ليالي بغداد التي إستوطنتها البي 52 فقد إهتزت أربيل كلها. لقد تذكر السيد الرئيس بوش فجأة مرسلات البث بعد قدومي إلى اربيل مباشرة وقرر أن يمطرها بعدد من صواريخ الكروز الفائضة عن الحاجة. العجيب أن تلك الصواريخ الفائقة الدقة لم تلحق اضرارا بمرسلات البث التي جاءت من أجلها وإنما تسببت بأضرار فادحة لعدد من دور المواطنين المجاورة, ولولا أن أغلب الأهالي كانوا غادروا المنطقة إلى مصيف صلاح الدين تحسبا من أن يضع السيد بوش في قائمة أهدافه تلك المرسلات لكانت المذبحة كبيرة. أما خسائرنا فحمدا لله أنها كانت بالفلوس وليس بالنفوس. لقد نجى الجميع أما خسائرنا فكانت عبارة عن سيارتين, واحدة لأخي والثانية لي. وصار قرارنا أن نعود حينها إلى بغداد بعد ان تأكد لنا أن الذي يغادر داره قد تلحقه أقداره.
سرعة الأحداث أنستنا تماما أن نحتسب لقضية التموين وإضطررنا حينها أن نبحث في كل الزوايا عن علب الأكل التي ظلت لحسن الحظ بعيدة عن الإفتراس. لكن هذه سرعان ما تناقصت إلى حد كبير بحيث صارت الوجبات أقل عددا وأخف وزنا.
في يوم من أيام الجوع تلك, وقفت قطة الجيران إلى الجوار من باب المطبخ حيث كنت أقف لتسمعني نداء جوعها .. ميو ميو ميو. في المرات السابقة كانت تحظى كالعادة ببقايا من وجبة الأكل, غير أني هذه المرة سرعان ما أجبتها بنفس لغتها : وآني هم هذه المرة ميو ميو ميو مثلك.
ربما لو أن السياب كان حاضرا إلى جواري في تلك اللحظة لإستبدل مقطع قصيدته (إنشودة المطر) الذي قال فيه (ما مرَّ عام والعراق ليس فيه جوع) بآخر يقول ( ما مرَّ عام والعراق ليس فيه ميو) .
أما لو كان قُدَّر له أن يعيش حتى هذه السنين, وشارك في العودة إلى عصر الخيام حيث تسكن مثات الألوف من المهجرين, لترك الشعر وصار يتحدث هو أيضا بلغة البزازين.
مقالات اخرى للكاتب