على الرغم من التطور المذهل نسبًيا في معرفة البشر بالعلوم المتعلقة بصحة جسم ونفس الإنسان والعلوم المتعلقة باكتشاف الأمراض الجسدية والنفسية والعلوم المتعلقة بتطوير أساليب المعالجة والوقاية٬ فإنه تبقى فجوات كبيرة في تطور المعرفة العلمية بأساسيات وبديهيات حول كيف علينا أن نستخدم الجسم ونتعامل مع النفس بطريقة صحيحة لكي نعيش حياتنا اليومية بشكل طبيعي؟ وبصياغة أخرى للسؤال: في أي لحظة من لحظات اليوم٬ كيف علينا أن نفعل الأشياء التي نقوم بها خلال اليوم٬ مثل كيفية الجلوس ووضعية المشي والتكلم والتنفس ووضعية النوم وكيفية القيام من السرير وكيفية التبول والتبرز والعطس والسعال وتحريك اليدين والتقاط الأشياء والنظر والسمع ومضغ الطعام وشرب الماء وتناول وجبة الطعام.. وغيرها كثير مما نفعله طوال الوقت ونحتاج أن نعلم ما هو الصحيح والسليم والصحي في كل ذلك. قائمة هذه الأشياء «الفعلية» والأشياء «التفاعلية» لا تنتهي٬ والمعرفة بها تهم كل إنسان في كل مراحل عمره وفي كل الظروف المختلفة التيُيمكن أن يوجد فيها. والمطلوب من أوساط البحث العلمي والطبي أنُتوجد لنا إجابات بسيطة وسهلة الفهم والتطبيق ومدعومة بالأدلة العلمية للكيفية الصواب في تلك الأمور كلها أوُجلها. والإلمام بهذه المعرفة أساس في ضمان الاستخدام السليم للجسم والنفس٬ الذي من أولى ثمراته الحفاظ على أجزاء الجسم والاستفادة من كل التفاعلات الجسدية والنفسية في بقائهما في أفضل حالة وأعلى مستوى من الجهوزية٬ بغية تحقيق «الاستفادة الأمثل» Best Utilization منهما طوال العمر باعتبار أن الجسد والنفس من أهم الموارد Resources التي نمتلكها للعيش في الحياة. ويعد النوم اليوم في المنظور الطبي «عالما» كبيرا جًدا٬ ولا مجال للاستطراد في توضيح الواضح. وأحد جوانب المعرفة البشرية حول النوم هو: كيف نضع جسمنا على الفراش حينما ننام٬ أو ماُتسمى «وضعية النوم» ٬Sleeping Position وما هو الصواب في ذلك٬ وما التبعات الصحية والنفسية السلبية لمخالفة القيام باتخاذ الوضعية الجسدية الصحية خلال النوم؟ وكان الباحثون من هولندا وبريطانيا قد نشروا ضمن عدد 15 ديسمبر (كانون الأول) الماضي لـ«المجلة الأوروبية لضعف القلب» نتائج دراستهم لتأثيرات وضعية النوم على التنفس لدى مرضى ضعف القلب. وصحيح أن المصادر الطبية تجمع على أن النوم على الجانب الأيمن هو الأصل الصحيح والصحي للنوم٬ ولكن الدراسة الحديثة تتحدث عن جانب أعمق للموضوع في كيفية الاستفادة المثلى من تلك الوضعية الصحيحة للنوم بوصفها إحدى الوسائل الوقائية في منع تكرار حصول الانتكاسات الصحية لدى المرضى٬ وليس فقط لتعليم الأصحاء كيفُيحافظون على صحتهم. ووفق التصنيف العلمي٬ُيقسم المتخصصون في طب النوم Sleep Medicine وضعيات النوم بين عموم البشر وفي كل مراحل العمر٬ إلى ستة أنواع رئيسية. وكل واحدة منها لها علاقة وطيدة بنوع شخصية الإنسان ونوعية حالته الصحية٬ وهي لغة الجسد الموازية للغة الجسد للإنسان حال الاستيقاظ. وغالبية الناس لا يغيرون كثيًرا وضعية نومهم في الليلة الواحدة. والبحث العلمي في وضعية الجسم أثناء النوم هو ضمن «دراسات طب وضعية الجسم» ٬Postural Medicine Studies التيُتعنى بفهم تأثيرات تغيرات وضعية الجسم مثل الوقوف والانحناء والجلوس والاستلقاء على الظهر والنوم على أحد الجانبين أو على البطن٬ وغيرها من الأوضاع التي قد يكون الجسم فيها خلال أوقات اليوم. وضعية النوم لها أهمية نتيجة تنامي المعرفة الطبية بتأثيرات ذلك على أنواع مختلفة من الأمراض٬ نتيجة تأثيرات الوضعية على عدد من المتغيرات الفسيولوجية في الجسم٬ مثل مقدار ضغط الدم وعمل الرئة ونسبة الأكسجين في الدم والإصابة بالجلطات القلبية٬ وعلى عمل أجزاء الجهاز الهضمي٬ وعلى تحقق تدفق كاف من الدم للجنين لدى نوم الأم الحامل٬ وعلى مفاصل الجسم وفقرات الظهر والرقبة وبقية أجزاء الهيكل العظمي للجسم٬ وحتى على حجم وعمق التجاعيد والترهل في جلد الجسم بالوجه وغيره. وتشير نتائج جملة كبيرة من الدراسات الطبية إلى أن أفضل وضعية للنوم بالنسبة للقلب كي يؤدي عمله براحة وكفاءة٬ هي النوم على الجانب الأيمن مع ثني النائم ركبته شيئا قليلا. وهذه الوضعية تعطي القلب مساحة وحجما رحبا في الصدر كي يعود إليه الدم بكمية كافية من الجسم ويضخه بقوة إلى أجزاء الجسم المختلفة٬ وأيًضا كي يهدأ النبض وتقل احتمالات اضطرابه٬ نتيجة للأسباب المتقدمة في عمل القلب نفسه٬ ونتيجة أيضا لسكينة وهدوء الجهاز العصبي اللاإرادي٬ ونتيجة كذلك لكفاءة عمل الرئة وتزويدها للدم بكميات جيدة من الأكسجين. وأسوأ أوضاع النوم على القلب هو النوم على الجانب الأيسر أو النوم على البطن٬ لأنهما يضعان المعدة في مكان غير مريح للقلب٬ وبالتالي يحدث إرهاق القلب وإجهاده وارتفاع ضغط الدم٬ ومن ثم سهولة حصول النوبات القلبية. مستوى المعرفة العلمية والطبية بحالة النوم٬ التي تتكرر يومًيا٬ لا تزال بحاجة إلى كثير من الجهد العلمي لفهم ما الأفضل في ممارسته وما الأفضل للاستفادة من النوم في تحسين مستوى صحتنا للوقاية من الأمراض ولمعالجتها. وثمة قناعات علمية متنامية مفادها أن جوانب شتى في عملية النوم بحاجة إلى فهم أعمق من قبل الباحثين٬ والأهم تحقيق إدراك أشمل من قبل الناس لأهميته وأهمية القيام بالنوم الصحي.
مقالات اخرى للكاتب