المقاربة المنطقية للتعامل مع أي نوع من المشكلات أو الصعوبات التي تعتري عمل الأوساط الطبية يخضع لأبجديات بسيطة وسهلة ومفهومة في أسلوب النظر إلى تلك المشكلات والصعوبات٬ وهي أن النظر إليها يتبع قانونين: أولهما «الأهم ثم المهم»٬ وثانيهما: «الممكن والأسهل والأسرع»٬ ودون اتباعهما تبقى الصعوبات والمشكلات دون حلول لفترات طويلة. وتقرير أي من المشكلات أو الصعوبات في مجالات خدمة المرضى ينطبق عليهما هذان القانونان٬ يكون بتصنيف المشكلة أو الصعوبة وفق الإجابة عن أربعة أوصاف: درجة الخطورة على المرضى والعاملين في الوسط الطبي؛ هل هي عالية أو منخفضة؟ وكلفة تطبيق الحل هل هي منخفضة أو عالية؟ وتطبيق الحلول هل يتطلب موارد إضافية يجب طلبها أم تتوفر متطلبات الحل في المنشأة الصحية نفسها؟ وحجم المشكلة أو الصعوبة باعتبار عدد المتضررين منها؛ هل هو مرتفع أو منخفض؟ ومن ثّم يكون وضع الأولويات في تلك الصعوبات أو المشكلات لتذليلها أو التغلب عليها. وتعاني الأوساط الطبية العالمية من عدد من المشكلات المتشابهة والمتكررة٬ التي حلولها بسيطة وممكنة ولا تتطلب مزيًدا من العون الخارجي. وعلى سبيل المثال٬ اليوم ثمة مشكلة متنامية بين الأطباء والعاملين الصحيين٬ وهي ما عبرت عنه «مايو كلينك» بـ«الاحتراق الوظيفي للطبيب» (Doctor ٬(Burnout أو ماُيسميه البعض «النضوب أو الإرهاق الوظيفي»٬ وذلك في دراستها المنشورة ضمن عدد الأول من ديسمبر (كانون الأول) الحالي لمجلة «وقائع مايو كلينك» ٬..Mayo Clinic Proceedings وتقول مايو كلينك على موقعها الإلكتروني الإخباري: «الاحتراق الوظيفي هو مشكلة شائعة بين أطباء الولايات المتحدة٬ وتشير الدراسات إلى أنها ذات تأثيرات سلبية على جودة الرعاية التي يقدمها الأطباء وأيًضا سلًبا على مستوى رضا المرضى عن خدمات الأطباء». وقال الباحثون إنه بالإضافة إلى الدراسات التي تبين الآثار السلبية لإرهاق مقدم الرعاية الطبية٬ هناك الكثير من الأدلة العلمية التي تثبت جدوى إيجابيات راحة مقدم الرعاية الطبية. والأطباء والممرضات الذين لديهم نوعية عالية من الحياة النفسية والشعور بمعنى وقيمة عملهم يقدمون خدمات للمرضى أكثر تعاطًفا وتقديًرا وُيشركون مرضاهم في مراحل المعالجة. وأضافوا: «وهناك عوامل كثيرة تؤثر في كيفية رؤية الأطباء لمهنتهم. وتشير دراسة جديدة إلى أن هناك علاقة مثيرة للاهتمام بين نضوب الطبيب وفعالية المشرفين عليه٬ وهذا ما وجده الباحثون في (مايو كلينك) عندما أجروا دراسة داخلية كبيرة في مستشفيات (مايو كلينك) حول مستوى الارتياح والرضا بين الأطباء وعلاقة ذلك بالصفات القيادية لرؤسائهم المباشرين». وكان الباحثون من «مايو كلينك» قد راجعوا نتائج 54 دراسة طبية حول الاحتراق الوظيفي لدى الأطباء شملت نحو سبعة آلاف طبيب. واعتمدت غالبية تلك الدراسات على تعريف الاحتراق الوظيفي بأنها متلازمة تؤثر على مجمل حياة العمل وتتميز بالسخرية والانفصال وعدم الكفاءة. وهو ما علق عليه الدكتور دانيال روبرتس٬ طبيب الباطنية في «مايو كلينك» بأريزونا٬ بالقول: «النضوب الوظيفي في كل مكان وإذا كنت تبحث عنه فإنك سوف تجد ذلك». وتعتبر «مايو كلينك» أحد أوائل المنشآت الطبية الأميركية التي لديها برنامجُيمكن ترجمته تقريًبا إلى «برنامج ارتياح الأطباء» Physician Well ­ being Program. وتقول اللجنة المشرفة على هذا البرنامج في «مايو كلينك»: «للأسف٬ الإرهاق والإجهاد والعمل الزائد أصبحت مشكلة متفشية بين مقدمي الرعاية الصحية في الولايات المتحدة». وتشير الدراسات الوطنية الكبيرة التي أن ما يقرب من نصف الأطباء والممرضات في الولايات المتحدة يعانون من متلازمة الاحتراق المهني٬ وهي متلازمة تتميز بإجهاد المشاعر العاطفية الوجدانية٬ وتبدد رؤية الشخصية عبر الوصول إلى معاملة الناس والمرضى وذويهم كأشياء وليس كأشخاص٬ والشعور المنخفض بمعنى العمل الطبي والهدف الإنساني من ورائه. وثمة الكثير من الأدلة على أن الإرهاق والاحتراق الوظيفي لا يقوض فقط مستوى الالتزام والتفاني بين مقدمي الرعاية الصحية٬ ولكن أيًضاُيؤدي إلى تآكل الالتزام  بالمهنية٬ ويقلل من مستوى جودة الرعاية الصحية٬ وُيسهم في حصول الأخطاء الطبية٬ وأيًضا يسهم في سرعة الدوران الوظيفي٬ أي عدم الاستمرار في الوظيفة في مكان واحد أو تغيير التخصص٬ وفي تدني عدد ساعات العمل بشكل منتج. وعلق الدكتور تيت شانافيلت٬ الباحث الرئيس في الدراسة٬ بالقول: «وجدنا أنه على مستوى عمل الأطباء كمجموعة٬ فإن سلوكيات المشرفين على الأطباء لها تأثير مباشر على شعور الأطباء بالارتياح والرضا وعدم الشعور بالاحتراق والنضوب الوظيفي». وشمل الباحثون في دراستهم نحو 4 آلاف من الأطباء والعلماء في منشآت «مايو كلينك» الطبية في كل من أريزونا وفلوريدا وميناسوتا٬ وتبين في نتائجها أن 40 في المائة من المشمولين في الدراسة لديهم على الأقل واحد من بين أعراض حالة الاحتراق الوظيفي. ولاحظ الباحثون أن ارتفاع مستوى فاعلية المشرفين على الأطباءُيؤدي إلى ارتفاع مستوى الراحة والرضا بينهم٬ وأضاف الباحثون بالقول: «ارتفاع مستوى الفعالية للمشرفين على عمل الأطباء يبرز من خلال إخبار وإشراك الطبيب في تحديد المشكلات وتمكينهم من تطوير الحلول والإشادة بهم في تحقيق الإنجازات». واستطرد الباحثون بالقول: «ويعمل نحو ثلاثة من كل أربعة أطباء بالولايات المتحدة الآن في مؤسسات كبيرة للرعاية الصحية٬ وتشير هذه الدراسة إلى أن ثمة تأثيرا واضًحا للصفات القيادية في منظومات الرعاية الصحية الحديثة وأهمية بيئة مكان العمل في مدى نشوء حالة النضوب والاحتراق الوظيفي للطبيب. والأطباء في كثير من الأحيان يتلقون تدريبا قليلاً في كيف أن تكون مشرًفا ومديًرا فعالاً٬ وهناك حاجة إلى استراتيجيات جديدة للتعرف على من لديهم قدرات إشرافية واعدة بين الأطباء وإعدادهم بشكل أفضل لكي يكونوا مدراء مستقبلاً». وصحيح أن ثمة عوامل عدة في نشوء هذه الحالة بين بعض الأطباء والممرضين وفي أوقات دون أخرى٬ إلا أن الحلول السهلة والممكنة والأسرع هي في داخل جسم الوسط الطبي ولا تتطلب مزيًدا من الموارد الخارجية٬ مثل توزيع المهام والتطوير المستمر للمعرفة الطبية والعمل بروح الفريق وأداء المهام وفق برامج علاجية وغيرها مما تعطي آثاًرا إيجابية ولا تكلف الكثير.