إن البناء لابد أن يحتاج إلى أسس وقواعد متينة يستند إليها وعليها، ويحدد له الواجهة المستنيرة، ويستمد منه القوة والفكر أيضاً، ويعتبر الإنسان مثل غيره في بناء الروح والجسد الذي يحتاج إلى عقل وفكر وقوة دافعة، وطاقة وحركة تسهل له الأمور الحياتية وتحدد له الأهداف والغايات.
... فالإنسان بفكره وعقله هو مشيئة واختياراً يحدد بهما أفعاله وأعماله، فهما أساس بناء شخصية الإنسان والمجتمع، والطاقة المحركة لعواطفه والمواجهة لإرادته، فهما عناصر الارتقاء المادي والأخلاقي والروحي، حيث السمو عن الحياة الوضعية إلى ما فيه الخير والصلاح والفلاح. وبقدر ما تكون هذه العناصر والأسس المتوفرة في الإنسان سليمة بقدر ما تكون فاعلة ومؤثرة في طريق البناء والتنمية والاستقامة.
... فمن النادر جداً أن تجد إنسان ذو حكمة وعقل وفكر يؤمن بعقيدة وفكر مستنير يخدم به نفسه ووطنه وأمته، فالفكر السليم هو ضرورة لكل إنسان يحتاجها كحاجته للطعام والشراب، يحدد من خلاله حركته الدينية والكونية، سواء من فكر وسلوك اجتماعي وسياسي كي ينطلق منهما لأهدافه المتعددة لتخدم الوطن ومسحوبة بقوة تتلاءم مع رسوخ وإيمان يؤمن به. وهناك من الناس من يفهم ويحدد الخطأ فيجعل من نفسه البشرية أقل من أن تؤدي الدور المطلوب لخدمة الناس والوطن، فيصبح حاملاً غير ذي أثر، يوجَه ولا يوجه، يقود للتخريب ولا يقاد للإصلاح.
... فتجد هناك كثير من الأفراد أو الجماعات تنتمي لفكر معين مختلف تماماً وقد يهدم ولا يبني، ليس لديها فكر عادل مستنير، فيعطى إختلاف في معايير ومضاميين قد يصعب تحديد المفهوم لهم وتفرض إنتقاء في التقارب وعدم احتكار الرؤية وإقصاد المفهوم العام مما تجعلها نية مبيتة مقصودة من التخريب وتحقق أهداف وأغراض هدامة، مما يسبب في السلوك ويجعل الفعلي أو القولي يتضمن استخدام القوة أو التهديد أو الخطف لإلحاق الأذى والضرر للآخرين وإتلاف الممتلكات كي تحقق أهداف مغلوطة معينة وهذا إيذاء وتدمير للروح والجسد والعلاقة بين شخص وآخر أو جماعة تجاه أخرى وفي النهاية هذا هو العنف الفكري أو بمعنى أضق إرهاب وسلوك شخصي يهتم بطابع التدمير ضد آخر وهذا عملاً عنيفاً حيث تنتهك البنى الاجتماعية من مجموعة أشخاص.
إذاً من خلال الفكر الهدام في عصرنا هذا تظهر دوافع واضحة في محاولة للتغيير في السياسة أو الطبيعة وفي المصالح والعلاقات الاجتماعية والدولية بطرق قاسية أو فرض هيمنة ومصالح وأيديولوجيات وعقائد وأفكار وثقافات غريبة محددة عن طريق الإرهاب المكثف مثل العولمة التي تمارس سياسة الطمس والاستبعاد للشكليات الثقافية الأصلية، مما جعلها تساعد على ظهور فكر إمتثالي للآخر، ويقوم بتحويل كل المغايرات إلى عناصر هامشية، مما جعلها تملك آليات تساهم في خلق ما يمكن إعتباره إرهاباً فكرياً.
... فمعوقاتنا في فكرنا هي الغزو الفكري الغربي الأوروبي الذي فرض وهيمن وهو قادم إلينا بطرق قهرية قد يسلكه البعض ضد البعض الآخر داخل هذه الأمة وهذا العصر بهدف الإخضاع والسيطرة والهيمنة لإخضاع الأمة لهذا الغزو الفكري العدائي، وقد يفرض أسلوب قهري بيننا يشمل جوانب الحياة المعنوية المختلفة من فكر وكلمة وحركة ومن رأي وحيلة ومن نظرية وشبهة. مع أنهم دول علمانية لا تلقى للتدين بالاً ولا تحفل به فيما ظهر؟ مما جعلهم يقولون: (إن الخطر الحقيقي الذي يهددنا مباشراً وعنيفاً هو خطر هذه الأمة، فهى عالم مستقل كل الاستقلال عن عالمنا الغربي الأوروبي فهم يملكون التراث الروحي الخاص بهم، ويتمتعون بحضارة تاريخية ذات أصالة، فهم جديرون أن يقيموا بها قواعد عالم جديد دون حاجة إلى الاستغراب. أي دون حاجة إلى الحضارة الغربية وفرصتهم في تحقيق أحلامهم هي في اكتساب التقدم الصناعي والفكري لديهم في نطاقه الواسع، فانطلقوا في العالم يحملون تراثهم الحضاري الغني، وانتشروا في الأرض يزيلون منها قواعد الروح الغربية الأوروبية)، كل هذا وذاك على ألسنتهم. فيحضرني مقولة لزويمر وهو أحد الذين يزعم بأنه من المبشرين لديهم فيقول: (إن إخضاع الأمة العربية لا يتم عن طريق الجيوش والإحتلال وإنما يتم عن طريق الغزو الفكري الثقافي الغربي، من هنا ينزع منهم القوة والجهاد والمقاومة والوحدة، ويضيف قائلاً: لابد أن نضمن مناهج التعليم والثقافة ما يؤدي إلى إتجاه وأن ينفذ ويطبق بدقة ومرونة وعلى مدى الأجيال الطويلة..!!).
.. إذاً فهم يبثون فكرهم بالتدرج، حتى لا تشعر أمتنا بالطريقة التي يتم بها التغيير، ولئلا يصدموا بواقعهم الحقيقي الرافض للفكر الغربي، ولأجل أن يتعود الناس على الاقتباس التدريجي للأفكار بعد تذويب التماسك والترابط بين أبناء الأمة الواحدة. حيث يعملون على تخدير أمتنا، وتنويم مشاعرها، لتبقى على حالها دون البحث عن عوامل الفكر النهضي وأسباب التأخر.
ونحن نقول لهم: أن الفكر العربي السليم هو الأثر البالغ في هذه الأمة، فهناك من قادوا هذه الأمة، بل الأمم وطهروا الأرض من الفساد والخراب والفكر الهدام منذ العصور القديمة، فهناك في صفحات التاريخ تمتلئ بالإضاءة من أهل الفكر الأصيل الذين غيروا من الأسواء إلى الأحسن، مما جعل تشتد الإضاءة حتى تتوهج من استمدادهم لفكرهم وإيمانهم وشجاعتهم وإخلاصهم وصدقهم في عطائهم تجاه أمتهم.
لا شك أن أمتنا تحملت وتحمل الصدمات، وكل هذه الصواعق الغربية واستطاعت أن تعيش رغم كل ذلك، فالأمة عاشت وسوف تعيش وتبقى رغم كل هذا الغزو الفكري وتشق طريقها إلى الأمام، وتفتح فتوحاً جديداً في ميادين الفكر والعلم والعقل والسياسة.
... ومن يدري؟! ربما يعود اليوم الذي تصبح فيه بلاد الغرب مستعينة بالفكر العربي لغزو العالم مرة ثانية مثلما حدث في العصور القديمة، فالاحتمالات واردة وكثيرة، فقد يستيقظ العقل العربي بفكره المستنير الأصيل ويصرخ ويقول: ها أنذا!.
مقالات اخرى للكاتب