أحب أن أسترسل مع سجيتي في كلماتي وأخذ الأمور وتركها بسعة صدر ولا أكره ما ينتقدني، مع إنني لا أحب ولا أحبذ الكره، إنما أحب الأمور في توقيرها وسكونها.
أرى بعض من الناس تكره التعصب لأي مذهب، وقد أرى في ذلك التعصب ضيق عقل وقلة علم، وضيق خلق وقلة مروءة، فالإحترام المتبادل بين أصحاب الأحزاب والأديان والملل والمذاهب لا يعني ذلك أنني أفضل منك أو استسلم بكل ما تقول، وإنما خطأ الإنسان لا يعني أبداً الفضل عن الآخرين، فحقيقة الفضل لا يعرفها ولا يدركها ولا يعلمها إلا الله.
... وفي هذا الزمان ما أكثر ما يفر الإنسان من نفسه، وما أكثر الذين يمضون في سبيل الحياة هائمين على وجوههم مع تمسكهم بالدنيا إلا الضرورات المادية فحسب، فيخربون وينسفون ويفجرون ويقتلون ويذبحون هنا وهناك، للأسف الشديد جداً أصبح الجدل آفة نفسية وعقلية معاً، والنشاط الذهني للمجادل يمده الحراك النفسي الخفي كلما يهدأ بسهولة، فالناس لديها من أسباب الجدل ما يفوق الحصر، ذلك أنهم يرتبطون بما ألفوا أنفسهم عليه من أديان وأحزاب وملل ومذاهب مرتبطين ارتباطاً شديداً للغاية، ومن الصعب على الناس الإحساس بأنهم وآباءهم كانوا في ضلال ـ مثلاً ـ فإذا جاءت رسالة عامة تمزق الغشاوات عن العيون، وتكشف للناس ما لم يكونوا يعرفون، فلا إستغراب من إنكار وتوقف، أو تكذيب ومعارضة. لذلك معالجة القلوب المغلقة بمفاتيح شتى، لابد أن يستسلم القفل عند أي واحد منها.
... فمثلاً لو نظرنا إلى القرآن في تحدثه للنفس الإنسانية حارب هذا الملل، وأقصاه عنها إقصاء، وعمل على تجديد حياتها بين الحين والحين حتى إنه ليمكنها أن تستقبل في كل يوم ميلاداً جديداً دون كره أو تعصب. من هنا ومن خلال ما نشاهده من إنفعالات وجدالات وتعصبات انفرط العقد الفكري والنفسي بين الناس، وفشا التسيب الاجتماعي، ونشأت مع التقدم العلمي أهواء جامحة تتسم وتزدهر بالصفاقة والتبجح فعرى الروح والجسد جميعاً.
... بلا شك إن الريح تعصف اليوم ضدنا جميعاً ونحن نعيش في مجتمع واحد، بل أمة واحدة أكثر مما كانت تعصف بالأمس ضد بعض الأديان وتراثها، فاليهودية أقامت على أنقاضنا دولة تريد اجتياح الحاضر والمستقبل، وقد احدثت بلبلة شديدة داخل الأمة العربية فترى الأفكار الهدامة التي تهدم الدول وتحارب الأديان بعضها بعضاً، بل ناس من دين واحد يحاربون ويقطعون الرؤوس وتنتشر الفوضى في أمتنا العربية ونحن نعيش في تعاسة غير بقية الأمم، وها نحن لا نعي ما يحدث لنا وإلى أمتنا، متى سنظل نحارب بعضنا ونقابل الفكر بالفكر بالسواء أو العامل النفسي أو السلاح؟
هل فكر الإنسان أن أشرف ما في الإنسان هو عقله وقلبه، فالإنسان عندما يتبع دين معين أو ملة معينة بعقله وقلبه؟ فهل العقل لا يكون قيداً ولا يدع القلب عوجاً؟ فالإنسانية الصحيحة ترفض بكل المقاييس جمود الفكر والنفس، وإنسداد الآفاق أمام الفكر والإنسانية ترفض عجز الحواس البشرية عن أن تكون مجرد أدوات لاستبانة الحقائق وإصدار الأحكام الصحيحة وهذه مسألة يطول الشرح فيها، فالدين الحق هو تشغيل لمواهب الإنسان الرفيعة بحيث ينتفي من حياته الظن والتوهم، ويبقى اليقين هو الوحيد هنا فقد أكون كذلك أو لا أكون.
لكل دين ضوابط كثيرة لكل شرائعه، ولم يترك أوضاع لكل متحدث ومتذوق حتى لا تشيع الفوضى والشغب بين الناس، فهناك ضوابط وأحكام، فمثلاً موقف الدين من الغرائز الإنسانية، فإن قيام الحياة يعتمد على نشاط هذه الغرائز، فإن قتلها قد أخطأ، وترك الحبل على الغارب خطأ طبعاً، فالمرء يحتاج إلى ضرورات لتصونه والمرفهات التي تنعمه، فالإسلام يضمن كل ذلك للإنسانية، فالإيمان عندما يكتمل في الإنسان يكون دوران في أجهزته الفطرية من كل كيانه على النحو والتوجه الصحيح.
... ولعلني أشير هنا وأرجع إلى نضوج العقل وامتلئه بالذكاء الفارق الحاد، فإنه يتوجه ويتحول إلى وسيلة جيدة في خدمة ما يريد وما يستطيع، فتجد كثير من الأذكياء أشرار بأفعالهم، فبعضهم قد يُسخر علمه لبلوغ أردأ الغايات والأهداف، وهنا يأتي دور القلب، فإن القلب السليم هو أساس التدين وأساس باب التقوى وهنا تبرز وتعرض الإنسانية أرقى صورها وأزكاها مع نبل الفعل والقصد وحسن النية الخالصة. فالوسيلة الوحيدة والصحيحة هنا هي التفاهم مع الآخرين لابد أن تقوي نفسك لا أن تعوق غيرك في مسيرته، فإن بعض الناس يظن أن بجهده ومجهوده هدم فكر الآخرين وذلك على بناء نفسه وأهدافه. وهذا خطأ فإن الضعيف لا يزول ضعفه بمحاولات فاشلة في تجريح أصحاب الديانات الأخرى وستبقى علته تلصق به معرته، وتذهب جهوده وأهدافه وفكره هباء.
فإن ائتلاف القلوب على الفكر والنفس بين الأديان هو اتحاد لكل الغايات والمناهج والمذاهب، فلا ريب أن تتوحد الصفوف وتجتمع وتوحد الكلمة للصالح العام فهذا في حد ذاته دعامة وطيدة لبقاء أمة دوامها ونجاح التوحيد في الاتحاد والإلتفاف هو نجاح وسر البقاء فيه، والإبقاء عليه، متقابلين ومتضامنين للقاء الله بوجه مشرق وصفحة نقية.
الإيمان الصحيح لكل دين وملة ومذهب يجب أن يكون على حق وأن يكون الله في قلبك وأنت بالنهار والليل وأنت تعيش على ظهر الأرض، فالقلب الذي يلغى وينقطع عن تيار الإحترام والوقار والأخلاق ونبذ الفرقة بين الأديان والتعصبات تتسلل إليه الأحاسيس الرخيصة وما دام لا يشتغل بالخير فستقتحمه الشرور.
... ها هو القلب المشرق المضئ يشق ويفسح أمامه كل الطرقات وسط كثير من الظلمات والأشواك.
مقالات اخرى للكاتب