أكثر ما يؤشكل الفكر والعقل العربي اليوم موضوع العلاقة بين الإسلام والديمقراطية ذلك للترجمة الخاطئة لها والعلة ليس في الإسلام ولا في الديمقراطية وإنما في الناقل والمترجم الذي ترجم الديمقراطية تفسيراً مبتسراً وخاطئاً الوضع الذي عَوّق التقارب بينهما وزاد من حظوظ الفرّقة بينهما وبالتالي شكل خط مُمانعة شرسة للديمقراطية في البيئة العربية والإسلامية عموماً لأن الديمقراطية ليست كما يتصورها الإسلاميون على إنها التعري من الملابس ومن القيم والأخلاق وخلع الحجاب ولا هي تعني إنك تسمح لزوجتك أنْ تتحرر من قيود الزوجية أو ترتدي البنطلون الجينز ولا هي أنْ تتحرر من دينك أو تتنصل من ثوابته وإنما هي عكس ذلك تماما. فيما إذا كانت ديمقراطية عربية اسلامية نابعة من بيئة عربية ومعبرة عن أوجاع انسانية عربية تطمح لتحقيق تطلعاتهم فالديمقراطية لا تؤخذ على أعتبارات تصرفات الفرد/ أو مجموعة أفراد بما هم جماعات منظمة مطلقاً وإنما تؤخذ بميثاقها الأصولي السلفوي الأولي من كونها تعني خروج كل فرد فينا عن انانيته وعن افقه الضيق ومغادرة كل الافكار الأحادية والإقصائية والاستغنائية المريرة وبما هي “نظام سياسي تنافسي يضم أحزاب عدة وإنْ النواة الأولى لها هي الاحترام العميق للأخرين مشاعراً وافكاراً ووجوداً ومساواة الأخرين بالذات وهي منهج ضرورة تقتضية صور التعايش السلمي بين افراد المجتمع وجماعاته ولا أعتقد إن الإسلام الرسوّلي يعارضها بهذا التصور وإنما نجد المعارضة من الإسلام الجديد (العربي العباسي العثماني السياسي الحزبي وغيره) وهو ما دفع البعض إلى تجريم الديمقراطية وتحريم الإندماج في عصرها بناء على طروحات ماضوية من التراث القديم لم يُعد صياغتها وصبها في قوالب المعاصرة والتمْدن الذي يدعو له الإسلام ويدافع عنه وعن مجتمع متطور ومتقدم يُلبي تطلعات المجتمع وطموحاته فـ”الاتجاه الغالب للتيارات السياسية الإسلامية – كما يقول السيد محمد حسين الأمين _ فــــــي الموقف من الديمقراطيـــة يقوم على اعتبارها مصطلحاً غربياً والموقف منه مشتق من العلاقة التصادمية بين الإسلام والغرب” .
وبالأتساق مع الطرح يقول الشيخ علي بلحاج إن الديمقراطية لا تنسجم مع قيم وتعاليم الإسلام وهو امر مناط اختلاف بين التيارين (العلماني والديني) وبين الديني ذاته حتى وهو أمر يحتج به بعض المسلمين امثال بلحاج على أن الديمقراطية ليست على اتساق مع الإسلام دامغين حججهم بأحكام ونصوص قرآنية وهنا تتطابق رؤية هذه الجماعات مع الرؤية الغربية المعادية للإسلام والتي تُريد دخول العرب في عصر الحروب الدينية القرسطوية التي عاشتها أوربا وتعافت منها بعد حرب دينية مقدسة بالقتل ونزّال مُدّمر مما يتسق مع طروحات الفوضى الخلاقة التي تُريد عرباً صالحين للفوضى والخراب! بمعنى إنْ الحركات الإسلامية التي ترفض الديمقراطية لا تختلف كثيرا في جوهرها عن الحركات السياسية الدينية الغربية التي تناصب العداء للإسلام وللعرب وهنا يتلاقى كلاهما في مشروع تدمير الحضارة العربية الإسلامية إلا إنْ الإسلام في جوهره يظل ديناً ديمقراطياً ذا مسعى وهدف مدني بكل ما تعنيه الديمقراطية من حماية الأرواح والحقوق والحريات العامة وحقن دم المرء وإن كان ذمياً _ غير مسلم _ لكن هذا التوجه يقابله رفض من جانب تلك الحركات العربية السياسية ذات المرجعية الدينية.
حيث إن الحركات الاسلامية المنخرطة في العمل السياسي على مجملها ترفض الديمقراطية وإن تلبس بعضٍ منها لباس الديمقراطية وتتزَّين به إلا إنهُ كلبّاس الحفلات الخاصة والسهرات لا يُلبس إلا مرة في السنة !! وإنْ ابرز الحركات الاسلامية التي تحولت من فكر الى ممارسة وعمل هي حركة ابو الاعلى المودودي مؤسس الأصولية الإسلامية وصاحب فكرة الحاكمية الذي يتقارب الى حد مع فكر الاخوان المسلمين اللذان تحفظا لدرجة اعتبرا إن نظام الحكم الإسلامي هو أقرب الى الثيوقراطية الإلهية وهو بالوقت ذاته يرفض النظام الديمقراطي باعتباره نظاماً غربياً وافداً إلينا ولا أدري هل نسي المودودي إن الثيوقراطية هي الأخرى ظاهرة غربية كنسية بابوية انجيلية وافدة إلينا كوفود العلمانية والديمقراطية ومشتقات الحداثة وبالنتيجة هنا فمن الضرورة البالغة علينا علمانيين وإسلاميين ألا نرفض بعض الكتاب ونؤمن ببعض منه؛ ثم نكفر من يرفض ما نقبله أو نقبل ما يرفضه لكن ليس هناك نظرية ثابتة لذلك قطعاً بل إنْ هناك قضية نسبية وليست ومطلقة تماماً. لكن بعد مرحلة الصعود المُتمرّحل الزمنْي للإسلام والانبعاث السياسي للظاهرة الإسلامية أصبحت الممانعة أقل حدة وهي تدفع بنوع من المرونة من أجل الانتقال السياسي والحركي للجماعات الدينية من المعارضة إلى منصة السلطة وتبوء منصب لها في العلمية السياسية بمعنى أنْ عولمة الغرب أثرت بتراث الإسلام أو ما سُمي بـ “عولمة الإسلام” وهذا لم يتم إن تدعي الديمقراطية _ زوراً _ من أجل الوصول فقط وقطع دابرها فيما بعد؛ أي قبلها كحلال مرة واحدة ورفضها كل المرات على انها حرام ومحرمة!! فالمعروف عن الحركات السياسية ذات المرجعية الدينية إنها حركات تؤمن فقط بديمقراطية المرة الواحدة تلك التي توصلها للسلطة فقط لا غير؛ ثم تتخلى عن قيمها فيما بعد؛ وهنا تتأكد شعارية الديمقراطية وفق الطروحات الإسلاموية واكذوبتها وتتجلى أزمتها الحضارية وتتبلور صورة الإسلام السياسي كعقبة ومعوق فكري امام التحول الديمقراطي.
مقالات اخرى للكاتب