تجربة الدورات الإنتخابية الماضية فتحت أعيننا على كثير من الحقائق الخطيرة والأمراض الاجتماعية المستعصية ، وأن اخطر مافي الأمر هو أن النخب السياسية والمثقفة المخلصة بكل اشكالها استطاعت أن تشخص تلك الأمراض ، وهي تشير إليها بوضوح في أغلب المناسبات وفي وسائل الإعلام والتعبير المتاحة ، ومع ذلك فإن مبادرات التغيير والتصحيح غائبة تماما ، مما جعل مظاهر الفشل والتخلف والفساد بكل أشكاله تتفاقم بشكل كبير، ولو بقي الحال على ما هوعليه فإن مستقبل العراق لن يبشر بخير وأننا في الطريق السريع نحو ديكتاتورية بلبوس ديمقراطي ، فإن لم تستطع رئاسة الحكومة الحالية استكمال فصولها ، فإن من يأتي لاحقاً سوف يستكمل نفس المشوار الذي قطعته الحكومات السابقة ..
ولا نعتقد أن في وسعنا أن نصلح ما أفسدته السنوات العشر الماضية بالطرق التقليدية ، بعد أن تعقد المشهد السياسي وتقاطعت المصالح السياسية للإحزاب والكتل المتنفذة وبعد أن نبت على جلود تلك الأحزاب ريش من ذهب ، و نجحت في أن تغلق كل الطرق أمام مشاركة الكفاءات والشخصيات المخلصة في بناء الوطن واسترجاع ما سلب منه من ثروات مادية أو معنوية .
لكن في وسعنا أن نسلك بعض الطرق المتاحة ، والمطالبة بإجراءات شرعية وقانونية لاتتعارض مع العقل والمنطق أو الدستور، وأن نجاحنا في أي خطوة من هذا القبيل يعتمد على مدى صبرنا وإصرارنا وإقناع الآخرين بصحتها وحاجتنا الملحة لها ، وخاصة أن ( الفكرة الصحيحة ) كالبذرة تنمو وتترعرع بسرعة مع توفر البيئة الصالحة والرعاية المستمرة والدؤبة لها ، ومن المفاتيح التي يمكن من خلالها الدخول في عملية الإصلاح هي :
المفتاح الأول : إيجاد آلية قانونية شرعية لمنع الفاشلين وفاقدي الكفاءات والنزاهة من الوصول إلى البرلمان ومجالس المحافظات ، فلو قدر لنا أن ننجح في ذلك نكون قد قطعنا دابر الفساد وسرقة المال العام في أهم مؤسسات الدولة والتي يقع على عاتقها تشريع القوانين ومراقبة أداء السلطة التنفيذية ، كما يصبح لدينا رجال دولة يمتلكون الكفاءة العالية في الإدارة وفي معالجة المعوقات ، وأن نزاهتهم سوف توفر لميزانية الوطن من الأموال التي كانت تسرق أو تحرق ما يمكنه من معالجة الفقر وإعادة البناء والتنمية بكل اشكالها وفي زمن قياسي.
ماهي تلك الآلية التي تبعد الفاشلين والسراق وتقرب الكفاءات والمخلصين ؟
( تعديل قانون المفوضية العليا المستقلة للإنتخابات ) وتضمينه فقرة تشكيل في كل محافظة ( لجنة خبراء ) لاختبار صلاحية المرشحين لعضوية البرلمان ومجلس المحافظات ، وتتكون اللجنة من خبراء في السياسة والأجتماع وعلم النفس ، وتنظر اللجنة في امتلاك المرشح الحد الأدنى من الخبرة السياسية والاجتماعية واللياقة النفسية والعقلية وتحقق في تاريخه ونزاهته . ولا يحق لمن لاتجد اللجنة فيه الشروط التي تؤهله لحمل هذه المسؤولية أن يشارك في الانتخابات . وفي وسعنا في هذا الأمر الاستفادة من التجربة الإيرانية في هذا الأمر ، فالتغيير في العراق يشبه إلى حد كبير التغيير في العراق . فالايرانيون شكلوا لجنة الخبراء ( خبركان ) تنظر في أهلية المرشحين لرئاسة الجمهورية ، وفي الانتخابات الأخيرة اختار الخبراء 6 مرشحين فقط من مجموع 200 كانوا قد تقدموا لمنصب رئاسة الدولة في إيران .
كما يجب أن يتضمن التعديل فقرة عدم أحقية عضو مجلس المحافظة الترشح لعضوية البرلمان ، مالم يقدم طلب استقالة خطية من منصبه الحالي ، ولا يحق له العودة لعضوية مجلس البرلمان في حالة فشله في الوصول للبرلمان . فالمفترض أن الهدف الأساسي لمنصب عضوية المجلس المحافظة هو ( الخدمة العامة ) وليس جسراً لنيل منصب أعلى وامتيازات أغلى ، والتسابق لنيل عضوية البرلمان هو جرح لمصداقية المرشح وكشف لنواياه الحقيقية من اشغال المنصب .
المفتاح الثاني : الإسراع في إقرار قانون الأحزاب السياسية في العراق ، فالأحزاب الحاكمة والمتنفذة تخشى كثيرا من القانون وهي تعمل جاهدة لعرقلة مروره في البرلمان ، وتأتي الخشية للأسباب لتالية :
أ- إن قانون الأحزاب السياسية يحد من مدخولات الحزب ، فليس في وسعه أن يحصل على الأموال السوداء كالتبرعات الخارجية المشبوهه التي يحصل عليها من الحكومات الأجنبية والمنظمات الدولية .
ب- القانون يغلق الطريق أمام الحزب المتنفذ أو الحاكم من الاستفادة من المال العام في تمويل مشاريع الحزب كالحملات الانتخابية وفي شراء الذمم والأصوات وغيرها .
ت- القانون يكشف أي أموال مسروقة من المال العام من قبل الحزب وكشف أساليب الاستحواذ عليها.
وهذه القيود التي تشعر الأحزاب بالذعر ، لأن ( قانون الأحزاب السياسية ) يتعامل مع الحزب المسجل لديه كما يتعامل ( قانون منظمات المجتمع المدني ) مع المنظمات غير الحكومية ، والقوانين العالمية لمنظمات المجتمع المدني تلزم المنظمة على فتح حساب مصرفي تودع فيه كل الإيرادات ومصادرها والنفقات وطبيعتها بشكل دقيق ومفصل ، كما ينبغي على الأحزاب تقديم كشف سنوي يتضمن تفصيلاً شاملاً عن حساباته المالية والتغيرات الإدارية التي ينبغي أن تعكس دور الهيئة العامة في المراقبة والموافقة على التشكيلات الإدارية وفي قيادة الحزب . ولذا فإن عدم رغبة الأحزاب في تشريع القانون هو دليل على نوايا مبطنة للإحزاب في البقاء على سرقة المال العام بحرية بعيدا عن الرقابة ، ونعتقد أن القانون لن يرى النور مالم يتم إجبار تلك الأحزاب على تشريع القانون ، من خلال الضغط على الحكومة التي يقع عليها كتابة مسودته ، وعلى البرلمان المسؤول عن مناقشة فقراته بما يضمن سلامة تلك الفقرات وإقرارها .
ماهي الإجراءات للإسراع في تشريع قانون الأحزاب ؟
أ- تسليط الضوء بقوة على خطورة غياب القانون في حرق المال العام وأثره الكارثي على التنمية الوطنية ، وهذه المسؤولية تقع على الإعلام الحر والمثقفين ، وخلق رأي عام يطالب بسرعة التشريع ويدعو البرلمانيين المخلصين للتحرك باتجاه إقرار القانون ، ونتوقع أن الأحزاب الحاكمة والمتنفذه سوف تقاتل من أجل خلق معوقات إقراره .
ب- التحرك الشعبي من أجل الضغط على البرلمان للإسراع في إقرار القانون ، علما أنه سبق وأن تمت قراءة مسودة القانون في البرلمان القراءة الأولى في حزيران 2011 ، لكن المسودة حفظت بعد أن اطلعت الأحزاب على فقراته التي هي ليست في صالحها.
ت- ضرورة أن تعيد كتابة فقرات مسودة القانون لجنة متخصصة ومستقلة لضمان إدخال أي فقرة لصالح الأحزاب ، والاستفادة من قوانين دولية رصينة تضمن حقوق الشعب العراقي بعيدا عن تأثيرات المصالح الحزبية ورموزها .
المفتاح الثالث : الحفاظ على استقلالية المؤسسات الحكومية المهمة التالية عن هيمنة الحكومة ( البنك المركزي العراقي – الهيئة المستقلة للانتخابات – هيئة النزاهة – المسائلة والعدالة – دوائر المفتش العام في الوزارات ) فقد تبين بوضوح أن رئيس الحكومة في الدورتين السابقتين قد نجح وبالتنسيق مع المحكمة الاتحادية الاستحواذ الكامل على تلك المؤسسات الحساسة ، واستطاع أن يعين عليها رجال يأتمرون بأوامره ، ونحن نعتقد أن تحكم رئيس الحكومة بتلك المؤسسات فتح الأبواب لجميع الموظفين من أصحاب النفوس الضعيفة في كل دوائر الدولة للعبث بالمال العام ، فالأموال مباحة في البنك المركزي ، والنزاهة مسلوبة الإرادة وقد تحولت إلى دائرة لاتمارس دورها ومسؤلياتها الوطنية في المراقبة والمحاسبة ، والتعيينات أو الفصل في هيئة الانتخابات محتكرة من قبل رئيس الحكومة ، والمسائلة والعدالة أصبحت فيها قرارات ( الاجتثاث ) خاضعة لرغبة رئيس الحكومة وليس للمصلحة العامة أو الحفاظ على الأمن الوطني ، ودوائر المفتش العام اصبحت دوائر روتينية تتستر على السرقات في الوزارات ، وعادل محسن المفتش العام لوزارة الصحة والمقرب من رئيس الوزراء دليل واضح على ذلك حيث سجل ضده 150 ملف فساد مالي وإداري .
كيف نحافظ على استقلالية تلك المؤسسات ؟
نعتقد أن استقلالية تلك المؤسسات يتوقف على قوة ونفوذ البرلمان ، ومنع تسيس القضاء ، ففي الدورتين الماضيتين
استطاع رئيس الحكومة من الاستحواذ عليها لسببين ، هما ضعف نفوذ البرلمان الذي تخلى عن حقه في الإشراف عليها ، وتدخل المحكمة الإتحادية لصالح رئاسة الحكومة عندما افتت بتابعيتها الدستورية للحكومة جزافا.
لذا فإن حسم أمر استقلالية تلك المؤسسات بيد البرلمان العراقي ، وإعادة هيكلة القضاء بما يضمن استقلاله وإبعاد هيمنة رئاسة الحكومة عنه .